د. أحمد مصطفى أحمد:
يقترب شهر الصوم الفضيل من نهايته ويحل موعد زكاة الفطر التي ينفقها المسلمون لتذهب إلى الفقراء والمحتاجين. وهي قدر معلوم مما يملك المرء من أصول يفتقر إليها الآخرون، وتختلف عن زكاة المال وإن كان يمكن إخراجها مالا أيضا. ومعنى الزكاة في اللغة التطهير والتنمية. وكما زكاة المال هي لتنقية ما ادخره المرء فائضا عن حاجته في عام وتنميته ببركة مساعدة من يحتاجون، كذلك زكاة الفطر هي لتنقية شهر الصوم وتنمية ثوابه وأجره عند الله. وما الزكاة في جوهرها، حسب معناها اللغوي وليس فقط بقواعد الشرع، إلا تنقية وتنمية ربما في كل نشاطات الإنسان في حياته. وهدفها الأساسي تخليص البشر من خصال الأنانية والدفع نحو التعاون والتعاضد لصالح الفرد والمجموع على السواء. وإذا كانت نظم حياة البشر طورت أشكالا مختلفة من الزكاة دون تسميتها كذلك، فإن للعلم والفكر زكاة أيضا بمعنى التطهير والتنقية والتنمية.
من الأنانية أن يقول المرء إن ماله الذي جمعه وكنزه هو من بذل الجهد فيه دونما اعتبار لمحيطه الذي يعيش فيه. كذلك لا ينفع العلم والفكر صاحبه ما لم يتزكَّ منه، بمعنى إفادة الآخرين به وعدم البخل فيه. فالعلم والفكر لا فائدة منه إذا حصره المرء في نفسه ولنفسه فحسب. نعم، قد يفيدك علمك وفكرك إلى حد ما في تحسين وضعك ومعيشتك. لكن عدم تفاعلك به مع الآخرين يصيبه بالجمود وربما يقود إلى التخلف والجهل. وأتصور أن زكاة العلم هي أن تعلمه لغيرك بما ينفع المجموع، وزكاة الفكر أن تطهره (تطوره) وتنميه. وما أحوجنا في هذا الزمن الذي تتعرض فيه البشرية لتدفق معلوماتي هائل مع تطور الإنترنت ووسائل الاتصال عبرها إلى زكاة الفكر بهذا المعنى. وليس القصد هنا المشاركة فقط، فالواقع أن المشاركات أصبحت من السيولة بقدر، خصوصا مع تطور مواقع التواصل الرقمية وغيرها. وإنما القصد أن من راكم معرفة أصيلة تمكنه من تجاوز سطحية ما هو سائد وتدبر واستنتاج ما ينير طريق الآخرين ـ أو هكذا يعتقد ـ يتعين عليه تزكية معرفته وفكره: تنقيتها وتنميتها باستمرار. وإذا كانت زكاة الفطر كل رمضان وزكاة المال كل عام، فإن زكاة الفكر يجب أن تكون عملية مستمرة ودائمة.
هناك فترات مظلمة في تاريخ البشرية، وفي تاريخ بعض الشعوب والأمم، كان أهم ما يميزها هو جمود الفكر وتخلُّفه، حيث لم يكن يتزكى المفكرون فأصبحوا في غيهم يعمهون. ومصيبتهم أن ذلك جرَّ معهم كل من يحيط بهم ويتطلع إليهم كمصدر معرفة وتنوير. ولأن فكرهم لم يكن ينقى أو ينمى ويطور فقد كان مبعث ظلمة العصر وتدهور حال المجموع. ونحن الآن في عصرنا هذا نعاني ـ نعم نعاني ولا نتمتع ـ من وفرة هائلة في المعرفة لكنها سطحية أكثر منها أصيلة وسهلة بما يحول دون إعمال العقل وبالتالي فهي مضللة أكثر منها تنويرية ومغيبة أكثر منها مصدر صحوة. فيا أهل الفكر زكوا أفكاركم، بتنقيتها وتطويرها على الدوام، كي لا نفقد مرجعية تحفظ للبشرية قدرا من الهداية والرشاد الحضاري. فأخطر ما يمكن أن نواجهه الآن هو الجمود والتحجر وعدم تنقية أفكارنا من أنصاف الحقائق وتشويهات التلفيق التي تصيب العقول بالاستسلام لما هو سهل متاح. إن في زكاة الفكر إعمالا للعقل ليتدبر ويبتكر، ويحلل وينتقد فيفتح آفاقا أوسع. ومما ينشط ذلك دوام التطوير وعدم التسليم بالمطلقات فيما هو متغير. فمن حسن الفطن ألا نتشبث بما ارتحنا إليه حتى لو تعارض مع الواقع والدروس من التجارب، وإنما تقوى قدرتنا على التفكير والمعرفة بطرح ما بلي منها وإضافة ما هو جديد وصحيح. ولا يعيب المرء أبدا أن يقال "يغير أفكاره"، فذلك من زكاة الفكر أيضا.
لا يجوز لأمة كان لها في تاريخ بعيد سبق مشهود في تطوير الفكر والمعرفة أن تعيش على صدقات الآخرين الفكرية. بل حري بها أن تستعيد قدرتها على الفعل والمبادرة في مجال العلم والفكر، ولن يتأتى ذلك وهي تركن للاستسهال وتستسيغ الجمود المريح. لا يعني ذلك إلقاء التراث في سلة المهملات، أو الانفصال تماما عن الأصول. بل القصد تنقيتها وتطويرها وتنميتها، والسعي نحو التجديد والابتكار بإعمال العقل وعزل كل ما هو متشدد في الصولية (بمعنى آخر متطرف). فلننظر ونتدبر ونتشكك ونفكر بالعقل والمنطق، دونما أساور تقيدنا أو استسهال يميع استنتاجاتنا. ولننتقد ونتقبل النقد، فلا يتطور الفكر إلا بنقد منطقي، فالنتيجة لصالح الجميع والبشرية كلها. وأول خطوة أن نستعيد قدرة عقولنا على العمل كما قدر الله لها، وألا نستسهل خمولها طالما يوفر لنا "جوجل" وغيره ما يسبر غور توقنا للمعرفة. ولنسأل أنفسنا دوما: ماذا أضفنا لما هو متاح على جوجل أو على الإنترنت عموما؟ ولا تحسبن ذلك الغثاء في أغلبه على مواقع التواصل فكرا أو إضافة محتوى، بل هو مجرد إعادة تدوير كما يحدث مع "القمامة".
علنا نستفيد من تشذيب الروح في شهر الصيام الفضيل لنشذب عقولنا كذلك، ونستعيد روح المعرفة والفكر كما يتعين أن تكون. اللهم آمين.