علي بدوان:
نكبة فلسطينيي سوريا خلال محنة البلاد، كانت وما زالت أقسى من نكبة العام 1948، والأكثر إيلاما، نكبة ثانية كانت أشد مرارة وعلقما من النكبة الأولى، عندما خرج الجزء الأكبر من آبائنا وأجدادنا تائهين ضائعين، مجروحين ومكلومين من بلادنا فلسطين، جنة الأرض، وزينة الدنيا وبلاد العالم قاطبة، حيث اتساع قوس التشرد والشتات، واستهداف وجودهم لدفعهم نحو الهجرات القسرية الجديدة لمختلف أصقاع المعمورة، وتلك البلاد التي تحمل رائحة وعبق فلسطين، وزعترها وزيتونها.. والتي أضنتها حياة شعبها في مشواره الصعب والمُتخم بضنك الحياة.
لن يسقط حق العودة، وهو الحق الذي يُشكِّلُ العنوان الأبرز للقضية الوطنية للشعب العربي الفلسطيني، والذي يُشكِّلُ أيضا العقبة الكأداء في وجه مشاريع التصفية السياسية والمادية للحقوق الوطنية والتاريخية للاجئي فلسطين على أرض وطنهم التاريخي في حيفا ويافا وعكا وصفد واللد والرملة...
وفي الأزمة السورية، ومنذ بداياتها، كانت الهجرة القسرية لفلسطينيي سوريا محفوفة بالمخاطر، تختصر بين ثناياها تراجيديا مأساوية لـ"لاجئين يبحثون عن لجوءٍ جديد"، في هجرة قسرية للأجداد عام النكبة من فلسطين، إلى سوريا ولبنان والأردن..
هجرة ليست طوعية، بل اختارها الأحفاد كونها فسحة أمل وحيدة للهروب من الواقع المرير، تحت وطأة الظروف الصعبة المحيطة بهم، في معمعان أزمة طاحنة أكلت الأخضر واليابس، فتقطّعت بهم السبل بين منفيٍّ، وبين عابرٍ للبحار على ظهور قوارب ابتلع البحر الأبيض المتوسط خلال السنوات الأخيرة الماضية، وعلى متنها شبان في ريعان العمر، وعائلات وأسر فلسطينية منكوبة..
فقد بات اللاجئ الفلسطيني في سوريا، ومنذ اندلاع الأزمة السورية، المنسي في أزمة طاحنة، تناسوه ونسوه، فمن له القدرة على استيعاب صرخات قهره! ومن له القدرة على استيعاب كارثة القارب الذي تحطم قبل فترة قرب جزيرة (لامبيدوزا) على مسافات قصيرة من الشواطئ الإيطالية، وقد مات نحو 200 فلسطيني من لاجئي سوريا، ولم يطلق أحد في العالم صرخة مدوية، ولا صرخة بسيطة من أجل هؤلاء الضحايا المنسيين!
ولكن، رُب سؤالٍ يُطرح: هل نَلُومُ من هاجر واعتلى البحار من لاجئي فلسطين في سوريا؟ هل نوجِّه الاتهامات السَّهلة لهم، ونكيل في حقهم كل التُّهم، أقلها أنهم ابتعدوا عن فلسطين ونسوها؟!
كلا، لن نكون مُتجبرين في إجابتنا، فاللاجئ الفلسطيني في سوريا لا يلام عندما يسعى للهجرة إلى أصقاع المعمورة الأربعة، فالمواطن من أي بلدٍ كان، وفي نهاية المطاف ينتقل في اتجاه اللجوء إلى أحياء مدينته، وإلى ضيعته أو قريته داخل وطنه، وعلى أراضيه المترامية الأطراف، وخياراته مفتوحة، أما اللاجئ الفلسطيني فخياراته محدودة، والمجهول قد يكون في انتظاره، ولعنة وثيقة السفر تلاحقه من مكان لآخر.
الفارق بين اللاجئين الفلسطينيين وبين الجميع من لاجئي العالم ونازحيه، هو أن الشعب الفلسطيني طُرد من أرضه طردا واقتلاعا وترحيلا قسريا، بينما الآخرون لم يفقدوا أوطانهم، حيث إن رحلتهم إلى التيه داخل أوطانهم وحتى خارجها، ستبقى قصيرة ومحدودة الفترة الزمنية مهما طالت، أما رحلة التيه الفلسطينية فمستمرة نكبة تلو نكبة، وهنا يكمن عُمق المأساة وجرحها الغائر.
الرحيل الإرادي إلى المجهول، أراده البعض ويريده من تآمر على فلسطينيي سوريا، أن يكون تلبية للنداء الساحر لقتل حقيقة الفلسطينيين ودفنها هناك، وشطب حياتهم الماضية من أجل ميلاد معتوه في بلاد لا يحسن الواحد منَّا فيها سوى العيش أكلا وشربا وهواء. ومع هذا، فإن اللاجئين الفلسطينيين الذين غادروا سوريا تحت ظروفٍ قاهرة، لن ينسوا بلادهم ووطنهم الأزلي..
وكما قال أحد هؤلاء اللاجئين عندما وصل من مخيم اليرموك إلى الدنمارك قبل أيام أيضا: "نحن لسنا في هذه الدنيا بخالدين، لكن أجيالنا ستولد من جديد في الوطن، ودياسبورا المنافي والشتات، ولن يموت الحلم بوطن ما زال وسيبقى اسمه فلسطين".

كاتب فلسطيني ـ مخيم اليرموك