د. رجب بن علي العويسي:
يأتي طرحنا للموضوع في ظل القناعة بأن حجم التأثير الذي يحمله ملف التسريح والباحثين عن عمل على مستقبل الوطن، لا يقبل البطء ولا يسعه الانتظار، ويصبح التسريع فيه وإعادة هيكلته في ظل معطيات المرحلة الجديدة بكل تفاصيلها وظروفها ومستجداتها أولوية وطنية، وواجبا أخلاقيا في سبيل المحافظة على مكتسبات النهضة وفرص النجاح التي تحققت لها في العقود الخمسة الماضية، وتحقيق وعد القيادة الحكيمة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم "وإننا إذ نعاهد الله عز وجل، على أن نكرس حياتنا من أجل عُمان وأبناء عُمان؛ كي تستمر مسيرتُها الظافرة، ونهضتها المباركة" لبناء عمان المستقبل وتحقيق أولويات رؤيتها الطموحة " عمان 2040".
ولمَّا كان ملف الباحثين عن عمل والمسرحين العمانيين عن أعمالهم من القطاع الخاص، من أكبر التحديات التي تواجه منظومة العمل الوطني، وتؤخر الجاهزية الوطنية في تنفيذ أولويات رؤية عمان 2040 في منظومات التشغيل والتوظيف والموارد البشرية، كونه لم يعد حالة مستقلة بذاتها، بل جزء أصيل من منظومة وطنية متكاملة، لذلك يؤدي التأخر فيه، والبطء في معالجته، ومحدودية البدائل وسيناريوهات العمل المتاحة، أو التفكير داخل الصندوق دون محاولة فهم المتغيرات والظروف الداخلية والخارجية المؤثرة فيه والمساهمة في حله، أو الغموض وعدم الشفافية في سرد تفاصيله، إلى تفاقم المشكلة وانعكاساتها على المنظومة الوطنية في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية وبيئة العمل والإنتاج، في ظل اضطراب الأوضاع الاقتصادية العالمية، وتأثير وجائحة كورونا (كوفيد19).
على أنه يبدو للمواطن في ظل متابعته وتقييمه لما اتُّخذ من إجراءات في ملف توظيف الباحثين عن عمل، والمواطنين المسرحين من أعمالهم، في الأشهر الماضية بعد إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة؛ أن عمليات التوظيف والتشغيل لا تسير حسب التوقعات، كما أنها لا تلبي الطموحات المتسارعة له، في ظل الهواجس السلبية التي بات يطرحها الواقع الاقتصادي الجديد، وتداعيات الإجراءات الاقتصادية والمالية المتخذة، وفرض ضريبة القيمة المضافة ورفع الدعم الحكومي عن الوقود والكهرباء والماء وغيرها من ضغوطات على الأفراد والأسر، بما عزز في المقابل من سعي المواطن نحو البحث عن الوظيفة لمواجهة متطلبات الحياة اليومية، وفي ظل استمرار تراكم الأعداد التي تزيد اليوم بحسب إحصائيات التعداد الإلكتروني لعام 2020 عن 46 ألف باحث عن عمل، وأعداد كبيرة من المواطنين الشباب المسرحين من أعمالهم والذين يزيد عددهم عن 10 آلاف مسرح، وهي أرقام صعبة بحاجة إلى إدارة فاعلة كفء قادرة على إعادة هيكلة هذا الملف وتصحيحه والوقوف عليه بصورة أكثر جدية والتزاما ومهنية واحترافية في العمل، كما يتطلب مزيدا من التكاملية ورفع درجة التنسيق وكفاءة برامج العمل الموجهة نحوه، واستشعار الحدس بالتوقعات وتبني آليات العمل المناسبة، وزيادة فرص التواصل والتناغم مع القطاعات الرئيسية في استيعاب الواقع الجديد، بما يعنيه ذلك من مسؤوليات كبيرة والتزامات وتعهدات بحاجة إلى متابعة تنفيذها على أرض الواقع، وتوفير الضمانات التقييمية لها بحصول المواطن على نتاجها، وهو أمر قد يفوق في هذه المرحلة جهة بعينها.
من هنا تأتي أهمية وجود لجنة عليا يصدر بشأن تشكيلها ونظام عملها واختصاصاتها مرسوم سلطاني سامٍ، تمتلك من الصلاحيات التقييمية والتقنينية والتنظيمية والرقابية والضبطية وقوة تنفيذ القرار، ما يصنع لإنجازها القوة، ولعملها النجاح والتميز، كما يختار لرئاستها وعضويتها الكفاءات الوطنية المخلصة والمخضرمة والتي تمتلك حضورا مجتمعيا كبيرا وتقديرا فائقا أثبتتها التجارب والمواقف والشواهد العملية بالإضافة إلى أعضاء من المؤسسات ذات العلاقة، بحيث تعمل على احتواء خطوط التأثير الفعلية في منظومة التوظيف والتشغيل والتمكين والتدريب والمال، للوصول إلى قرارات ملزمة لها تأثيرها في الواقع، كما تمتلك حس التواصل وروح التناغم وفقه الإقناع، الذي يضع الوطن وتحقيق مصالحة أولوية العمل وغاية الغايات، لتقرأ في المؤثرين الاقتصاديين ورجال الأعمال والمال، والمستثمرين الاقتصاديين الدوليين، وأصحاب الشركات الكبرى التي لها موقعها في منظومة الاقتصاد الوطني خيوط اتصال ومحطة التقاء، ورابطة عمل تتجه جميعها نحو تعميق روح التغيير والعمل الجاد في التعامل مع هذا الملف في إطار من الشعور الجمعي والحس المسؤول، والمسؤولية المشتركة نحو هذا الوطن وأبنائه.
هذا الأمر من شأنه أن يرفع من مستوى الجاهزية الوطنية في التعاطي مع هذا الملف، وإعادة هيكلته بطريقة أكثر احترافية تستفيد من الرجع الميداني الذي يقدمه المجتمع، ويعمل على خلق روح التناغم والتكامل بين مختلف منظومات الجهاز الإداري للدولة بكل قطاعاته ووزاراته وهيئاته ومجالسه، كما تعمل على بناء مزيد من الترابط والتكامل بين سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية، بالإضافة إلى صلاحياتها الضبطية في التعامل مع أي انحرافات أو تجاوزات في عمليات توظيف العمانيين أو إجراءات تسريحهم من القطاع الخاص، وتوفير الدعم للقطاع الخاص في تذليل الصعوبات التي يواجهها في استيعاب القوى العاملة الوطنية، وإلزام الشركات ومؤسسات القطاع الخاص بإعادة تصحيح ممارساتها وتكييف أوضاعها في ظل القوانين الوطنية المستجدة، والاستغناء عن الأيدي الوافدة في التخصصات والوظائف التي يوجد بها العماني الكفء، مع تبني سياسة تدريب على رأس العمل واضحة المعالم تضمن تكييف هذه المخرجات والاستيعاب الوظيفي لها.
وبالتالي أن يؤدي وجود اللجنة إلى استنفار كافة خطوط التأثير الوطنية، ووضعها أمام حركة دائبة من البحث والمراجعة والتطوير وإنتاج الحلول وتوفير البدائل، وتوفير البيانات والوقوف على مقتضيات الواقع، عبر إجراء مسح وطني شامل للفرص المتاحة من الوظائف في القطاعين الحكومي والخاص، ونوعية الوظائف، والمؤهلات العلمية لها، كما تؤدي النافذية في قراراتها إلى سرعة البت في القضايا ذات الأولية في إطار مساحة التفكير الجمعي التي تنطلق منها، وقدرتها على فرض سلطة الأمر الواقع في إفصاح القطاع الخاص عن أعداد القوى العاملة الوطنية فيه، وتخصصاتهم، ووظائفهم، ومواقعهم في منظومة العمل، بما يضمن تقليل الفجوة بين العرض والطلب، وخلق تناغم يضمن تكييف سوق العمل لمتطلبات الواقع الاقتصادي الجديد، سواء من حيث القوى العاملة الوطنية ومؤهلاتها وكفاياتها والمهارات التي تحملها وعلاقتها بسوق العمل الوطني، وجاهزيتها للتكيف مع بيئات العمل المتجددة، أو من حيث سوق العمل ذاته، ومستوى التجديد والتنوع الحاصل فيه، ومواءمة الوظائف لخبرات المواطن ومؤهلاته، وبيئة العمل المحفزة للإنتاج، وكفاءة التشريعات والقوانين التي تعمل على تبسيط الإجراءات والحد من الهدر وفاقد العمليات المتكررة الناتجة عن البيروقراطية، وتوفير الضمانات التي تحمي المواطن من الاحتكار والاستغلال السلبي والتسريح الممنهج ضده، ليمتد دورها إلى منح الفرص للشباب الباحث عن عمل للاستثمار في قدراته والتسويق لمهاراته وكفاءاته لضمان انخراطه الكفء في سوق العمل واعتماده على نفسه دون انتظار الوظيفة، فتؤسس بذلك لمرحلة جديدة من التعامل مع هذا الملف، بإنتاج عناصر القوة فيه، وتوفير التشريعات والقوانين التي تقف في وجه التحايل أو التصنع والأعذار الذي تتجه إليها الشركات ومؤسسات القطاع الخاص بشأن حصتها من القوى العاملة الوطنية.
إننا نعيش مرحلة وطنية حساسة بكل تفاصيلها وفصولها، وهي في ظل المتغيرات والظروف المروّجة لها، تستدعي المزيد من التكامل والتناغم وحس المسؤولية والتزام الشفافية والوضوح في هذا الملف، ووضع المواطن في صورة العمل القائم نحوه، والآليات المتخذة، والإجراءات المعتمدة، وحجم الفرص المتاحة، والتحديات التي قد تواجه اللجنة في عملها، ودور المواطن في مساعدة اللجنة في الوقوف على عين الحدث وواقع العمل والتزامه مسار الأداء والنهج الذي تتخذه اللجنة، خصوصا في ظل الدور الذي تمارسه منصات التواصل الاجتماعي والذي يشكّل ورقة ضغط على الحكومة في تعاطيها مع قضايا الشباب وظروفه وتحدياته، كما أن ما تحمله هذه المرحلة من طموحات وما تبرزه من جهود وطنية في سبيل تحقيق الاستدامة المالية وتعزيز تنويع مصادر الدخل، والإجراءات التي اتخذتها الحكومة في إطار اقتصاد الأزمات لبناء اقتصاد وطني قادر على المواجهة ويحظى بثقة المواطن والمنظومات الاقتصادية والمالية المحلية العالمية، يصنع من عمل اللجنة جهدا تنافسيا استثنائيا يفوق التوقعات، ويتسم بالاستباقية والحدس المبني على مؤشرات عمل حقيقية وخطط أداء فعلية، ومسوحات مؤصلة للحقائق، للوصول إلى قرارات منتجة، وإنجازات مشهودة، وشواهد أداء مثبتة، في استيعاب الباحثين عن عمل، وإعادة هندسة تقييم إجراءات التسريح وإرجاع المسرحين إلى وظائفهم.
أخيرا يبقى الطموح والثقة في قدرة اللجنة العليا المقترحة على التعاطي الجاد مع هذا الملف، بالإضافة إلى ما أشرنا إليه سلفا من صلاحيات، وابتكارية في الأدوات والآليات، مرهونا بمستوى التكاتف والتفاعل مع مقتضيات وجودها وأهدافها وغاياتها، والسيناريوهات التي تطرحها، والقوة التشريعية والضبطية والإلزامية التي تتخذها من واقع صلاحياتها لمعالجة ملف التسريح والباحثين عن عمل، وفق مسار أداء واقعي متوازن، يجنب هذا الملف الاجتهادات الشخصية أو الأفكار الوقتية أو الالتزامات اللحظية، وانتزاع سلوك الأنا والمصالح الشخصية التي أرهقته وأضاعت فرص نجاحه.