سعود بن علي الحارثي:
أتقدم وأتأخر، أقرر وأحجم، أهم وأضعف، تلمس أصابعي أزرار الكلمات لتبدأ كتابة مدخل يصلح كمشروع لمقال، فتخونني الكلمات وأصاب بالعي والعجز وأتراجع مرة وثانية وخامسة، فماذا أكتب؟ وماذا أقول؟ وبأي لسان أتحدث؟ وما الأسلوب أو الصياغة التي ستستوعب وتقدم وتصور ما يجيش في نفسي بدقة وإتقان وبراعة؟ أليس من المخجل أن نسود الصفحات بسواد الأحبار من مكاتبنا الفخمة وغرف نومنا المريحة ونحن نتمرغ في بحبوحة العيش وننعم برخاء الحياة وأمنها واستقرارها؟ فلا خوف ولا فزع ولا وجل ولا رعب يحاصرنا ويحيط بنا، يهدد أرواحنا ويزلزل قلوب أحبابنا من أمهات وآباء وأطفال وزوجات يرزحون تحت سلطة الاحتلال والحصار والتجويع والتهجير والقتل وهدم المنازل وتجريف الأرض الزراعية وهتك الأعراض وتدنيس المقدسات... فأي حياة وأي كرامة واستقرار ووضع مزرٍ وقهر يعيشها الشعب العربي الفلسطيني؟ أليس من المخجل أن ننصر الأخوة بمشاعر تعلن عنها الكلمات، والتعبير عن التضامن في وسائل التواصل ونشر المقالات وملء الصفحات بمحتوى مستهلك كررناه وأعدناه بعناوين مختلفة ونستحضره في كل مناسبة، فهل من جديد نقدمه لهذا الشعب الأبي العظيم؟ ولكن ماذا نملك غير ذلك؟ وهل بيدنا حيلة أخرى أو عمل ومبادرة وفعل تحتوي على ابتكار وتطور ولها انعكاسات ونتائج أكثر تأثيرا وقوة؟ وكيف يمكن لمن لا يملك سلاحا إلا الكلمات والمشاعر والأحاسيس والعواطف الجياشة أن يهب لنصرة القدس والمسجد الأقصى؟ أوليس هذا هو أضعف الإيمان الذي نستطيعه؟ وعلى كل منا مسؤولية وواجب أن يسهم ولو بكلمة من أجل فلسطين والتعبير ولو بمقال متواضع عن تضحيات شعبها الذي يبث فينا الأمل والحياة والروح النابضة بالإيمان والإرادة والشعور الإيجابي الجميل، إلى جانب ذلك، فقد وجدت وتبينت على ضوء متابعتي لوسائل التواصل، حجم التجاوب والتأثير ومستوى التحفيز ومشاعر البهجة التي يعبِّر عنها الفلسطينيون للتأييد والتشجيع والتضامن والدعم والكلمات الطيبة المساندة والمؤازرة والمؤيدة التي يتلقونها من إخوانهم العرب على شكل تغريدات أو مقالات أو نصوص أدبية وشعرية أو بأشكال متعددة من الفنون والإبداع كل بحسب ما يبرع فيه. فلا عذر إذن من إظهار المشاعر والتعبير عن الغضب والاحتجاج لما يجده الفلسطينيون من جبروت القوة الغاشمة المحتلة، ومن تجاهل الحكومات العربية وخنوعها ومواقفها الانهزامية وترك الأشقاء عزلا أمام الآلة الإسرائيلية المدمرة والمحطمة... لذلك انتصرت إرادة كتابة هذا المقال ومبرراته على الشعور العميق بالخجل اللذين امتزجا وتحاورا وتجادلا واتفقا أخيرا. فالحدث جلل والقدس تشتعل، والفلسطينيون الأشاوس يقدمون التضحيات تلو التضحيات لحماية المسجد الأقصى وجميع المقدسات في الأرض المباركة التي رفع رب العزة قدرها وأعلى منزلتها، في فلسطين انتفاضة شعبية للدفاع عن شرف العرب، ومقدساتهم، لاستعادة مجدهم وتاريخهم وعروبتهم، منظر مهيب، مشهد ساحر، إرادة تبهج القلب وتشرح النفس، فما زالت الدنيا بخير، والفلسطينيون يثبتون بالدليل القاطع ما تضمنته مقولة زعيمهم الرمز ياسر عرفات بأنهم "شعب الجبارين"، زحف بشري هائل ينطلق من البلدات والقرى والمدن والمناطق الفلسطينية للمؤازرة والحماية وطمعا في الشهادة، لتشكيل سياج دفاعي قوامه الإنسان في مقابل جيش مدجج بأحدث الأسلحة القاتلة والمدمرة، وقيادة وعناصر لا تعترف بحقوق إنسان ولا يرأف لها جفن ولا يقشعر بدن ولا يرجف قلب ولا يستيقظ ضمير أمام مشاهد الموت والتدمير وسحق كرامة البشر، وتعطيل جسده وقتل البراءة في مهدها وإزهاق أرواح الأطفال والنساء والشيوخ... فأي إرادة وشجاعة وجرأة وعظمة يمتلكها الفلسطيني؟ وأي شرف وفخر وكرامة يهدوننا إياها؟ وهل نملك نحن إلا العجز والخجل والهوان والكلمات والمشاعر والعواطف نتبادلها معهم؟ كلما ثبطتنا السياسات الانبطاحية وتغلغلت فينا مشاعر الإحباط والخمول واليأس، واعتقدنا وآمنا بأن عصر البطولات والملاحم والثورات وإرادة الإنسان الحر التي تطاول عنان السماء قد ولت وانتهت وبادت، وبأن روح العربي قد ماتت وانطفأت عزيمتها واستسلمت للهوان والذل، اعتدنا على ذات النمط من الحياة المملة الرتيبة التي تفتقد الذوق والطعم والإحساس، كلما رددنا واستكنا إلى قصيدة الشاعر العربي التي انطبقت علينا "ناموا ولا تستيقظوا * ما فاز إلا النوم ..... وإذا أهنتم فاشكروا * وإذا لطمتم فابسموا" كلما، وما جاء بعدها من كلمات وبما تختزنه من معانٍ ودلالات معبِّرة وواصفة ومصنفة لحال العربي في زمانه الرديء والسيء الذي يحتشد بالمنغصات والآهات والحسرات والآلام والأحزان القاتلة وما يلقاه من إهانات وذل وهوان... بلغ منا اليأس مبلغه، ثارت فلسطين بقضها وقضيضها بشعبها وحجارتها وقوة هتافاتها التي ترج السماء والأرض بصواريخ قسامها وصدور شبابها ليضيفوا إلى تاريخ العرب ملحمة جديدة لا يتقن صياغتها وإدارتها وقيادتها إلى النجاح إلا "شعب الجبارين". فهنيئا لنا معشر العرب، وحق لنا أن نعتز ونفتخر بالفلسطينيين، وأضعف الإيمان أن نشاركهم المشاعر والدعاء والهتاف وبهجة الصمود والإيمان العميق بأن النصر قادم وفلسطين على عتبة عهد جديد، فما بعد الانتفاضة إلا أخرى، في سلسلة من الملاحم التي لا تنقطع ولن تنقطع إلا بتحرير الأقصى وعودة فلسطين حرة أبية إلى الجغرافيا العربية. صحيح أن الشعب الفلسطيني سوف يدفع ثمنا باهظا وسوف يتعرض لخسائر جسيمة وعميقة لانتفاضته وثوراته وصموده وإبائه ودفاعه عن شرفه وعرضه وأرضه ومقدساته وحقوقه المشروعة، وسوف تنجح إسرائيل في تدمير وتقويض كل شيء يملكه الفلسطيني، ولكنها ستفشل فشلا ذريعا في كسر إرادته وتدمير عزمه وصلابته وطموحه وتطلعاته في تحرير فلسطين.