د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. وقال عن الزكاة وحكمتها ومرماها وهدفها:(طهرة للصائم من اللغو والرفث، وطعمة للمساكين)، فقد حدَّد غايتها، وهدفها الاجتماعي الكبير، ومرمى الشريعة من سَنِّها، وحكمتها، فهي تؤاخي بين الناس، وتدفع إلى تمتين أواصر المجتمع، وتماسك بنيانه، وقوة أساسه، وأركانه، وتجعل الغني في أمان من حسد الفقير، ويكون دعاء له من متواصل من القلب، كما أنها تكون جبرا لصيام أحدنا إذا جرحته كلمة هنا، أو هناك، أو يكون قد لغا لغوًا نسيانًا منه، وسهوًا، فتجبره هذه الزكاة، وتمحوه تلك الصدقة، فيكون طهرًا له من هذا اللغو، وذاك الرفث، ويكون طعامًا لإخوانه من فقراء المسلمين ومعوزيهم ومحتاجيهم، وذوي الأمراض منهم.

وسادسها ـ أننا تعلمنا من رمضان كذلك أن الطاعة سهلة، ليست صعبة، وأن ثوابها كبير كبير كما هو في رمضان، ويستمر إلى ما بعد رمضان، فالله تعالى يقول:(من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)، ويقول في بيان ثواب الصدقة المنفَقَة في سبيل الله:(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (البقرة ـ 261)، وفي الحقيقة أننا كنا نقيم الليل، أو نصلي التراويح إحدى عشرة ركعة، سواء في المساجد التي فتحتْها بعض البلدان، أو في البيوت فلم يكن يمر يومٌ إلا وقد أقمْنا التراويح، ثم قبل الفجر تخفُّ أجسادنا للتهجد، فنقوم ونصلي، ونعبد الله بحب، ورجاء في قبوله، ورحمته، ونقوم من نومنا لننصب أقدامنا بين يدي ربنا، ونحرص كل الحرص على السنن الرواتب، ونزيد في صلوات التطوع، ونصلي الضحى ثمانيَ ركعات، ونشكر الله على نعمة العبادة، فعندما ينتهي رمضان نظل على ذلك فتراتٍ طويلة، عديدة، وأزمنةً مديدة، وربما واصل بعضنا فِعْلَ ذلك طوال العام لما وجده من لذة الطاعة، وجلال القرب، وكمال الوصال بربه ليلًا، والناس نيام، وهو واقف يصلي لله، ويسجد له باكيًا خاشعًا، وخاضعًا، دامعًا، يفعل ذلك عن حبٍّ، واستدامة، فها هو ذا يواصل الحب، والتقرب بعد أن انتهى رمضان، وقد تعلم منه أن العبادة موصولة، والطاعة مستمرة، والعروج إلى الله بالصلوات لا ينتهي بانتهاء رمضان الفضيل، قال تعالى:(واعبد ربك حتى يأتيك اليقين)، وقال:(فإذا فرغت فانصب وإلى ربك فارغب)، فِإن شأن المسلم استمرار الطاعة، وسهولة العبادة.

وسابعها ـ أننا قد تعلمنا من رمضان معنى الخشية وكمال الصلة بالله، وعفة اللسان، وطهارة الجنان، فهو يبتعد عن الغيبة والنميمة، وذكر الناس بِشَرٍّ، أو بهمز، أو بلمز بعد أن تعلمنا من رمضان أن ذلك يجرح الصوم، وربما أنهاه إن كان شهادة زور، أو قول زور، ففي الحديث الشريف الذي رواه البخاري:(من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)، وعلى كل مسلم ألا يذكر أحدًا بسوء، ولا يتعرض له ـ عندما يأتي ذكره في مجلس ما ـ بغمزٍ، أو تندرٍ أو احتقارٍ، وأن يكون كبيرًا عند نفسه، وعند ربه، ولا يذكر أحدًا في غيابه أو حضوره بما يحزنه، أو يُندِي جبينه، حتى لو كان فيه عيب ما فليس له أن يذكره متندرًا حتى لا يدخل في دائرة البهتان أو الاغتياب، ففي حديث الغيبة المشهور:(الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، قيل: يا رسول الله، فإن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته)، وتعرفون آية الحجرات، وتدركون وصفَها الصعبَ لمن يستحلون اغتياب الناس، فالله تعالى يقول:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ) (الحجرات ـ 12)، فهو وصف شنيع؛ حيث يكون المغتاب لأخيه آكلا لحمه، وهو أمامه ميت، لا حراك فيه، وقد بدا عليه أثر الموت من سبْل العين صوب السماء، لا حراك فيها، وازرقاق الوجه، أو بَهَتَانه، والتسليم التام لله بلا نفَس، ولا حركة بطن، ولا رفع قدم، والنظر محزنٌ مبكٍ متعبٌ.

وثامنها ـ كذلك توقير النفس واللسان بعدم الشتم أو التدنِّي في القول، عند الغضب، والتفوه بما لا يليق من القول، والعبارات الآثمة، حتى ولو كان مع الشاتم الحق، حيث وجَّهنا الرسول عند الغضب إلى تغيير الهيئة بين قيام، وجلوس، وقعود، أو وجَّهنا إلى التوضؤ حيث نطفئ به نار الغضب، ونضرب الشيطان في مَقْتَل، كما حذرنا من السبِّ، وبين لنا كيف نعالجه، ونحن صيام، فقال (صلى الله عليه وسلم):(فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يفسق ـ وفي رواية:(ولا يصخب)، وفي رواية:(ولا يجهل) ـ فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إن امرؤ صائم، إني امرؤ صائم)، أي: يمنعني صومي من التدني إلى مزلقة الشتم، ومَسَفَّة السب، فليس الصائم إلا طاهر اللسان، عفيف القول، ليس طعانًا، ولا لعانًا، ولا فاحشًا، ولا بذيئًا، فنتعلم من رمضان أن نكون أعفَّاء اللسان، وألا نقرب الشتم والسب طوال العام، وقد دخلنا في مدرسة رمضان، وتعلمنا منه كل تلك القيم، والأخلاقيات، والتربويات، والمعاني الراقية، والمعاملات السامية، وحسن اللقاء بالناس، وجميل عشرتهم من غير ما تجريح، ولا تقديم ما يحزن أفئدتهم، وقلوبهم.

وتاسعها ـ إننا تعلمنا من رمضان أن تغيُّر الشيء لأجل العبادة إنما هو تكريم عند الله، وإن كان عند الناس مذمومًا، فتغير رائحة الفم لأجل العبادة، وعدم الأكل لفترات طويلة قد تتغير معه رائحة الفم، وقد يتأذَّى الناس من ذلك، لكنَّ ذلك لما كان لأجل الطاعة فقد تغيرت معه موازين السماء، واختلفت عن معايير الأرض، فكان هذا الخُلوف عند الله أطيبَ من ريح المنسك، ففي الحديث الشريف:(والذي نفسُ محمد بيده، لخُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك)، فنتعلم أن الأمور عند الله ليست بالظواهر، وأن الطاعة عنده ذات مقاييس خاصة، ومعايير مختلفة عن معايير الناس، فنرحم الصائمين طوال العام في أنحاء الأرض، وندعو لهم بدل أن نتأفف منهم، على شيء ليس لهم فيه إرادة، ولا لهم فيه ذنب، ونعاملهم كما عاملهم الإسلام بمعايير راقية، وموازين سامية.

وعاشرها ـ ونختم به، أن الصائم ليس كغيره ممن لم يصم، الصائم له أحكام خاصة، ومقام رفيع، ومن ذلك أنَّ له فرحتين، يفرحهما حقيقة: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ويظل دعاؤه محققًا متقبلًا إلى حين فطره، أو عند فطره، ففي الحديث الشريف الذي يرويه مسلم:(للصائم فرحتان: فرحة حين يفطر، وفرحة حين يلقى ربه)، وفي رواية أخرى:(للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقي ربه فرح بصومه)، قال الحافظ ابن رجب: (أما فرحة الصائم عند فطره أن النفوس مجبولة على الميل إلى ما يلائمها من مطعم، ومشرب، ومنكح، فإذا مُنِعَتْ من ذلك في وقت من الأوقات، ثم أبيح لها في وقت آخر فَرِحَتْ بإباحة ما مُنِعَتْ منه، خصوصا عند اشتداد الحاجة إليه، فإن النفوس تفرح بذلك طبعًا، وأما فرحه عند لقاء ربه ففيما يجده عند الله من ثواب الصيام مدخرا، فيجده أحوج ما كان إليه، كما قال تعالى:(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المزمل ـ 20)، وقوله تعالى:(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران ـ 30)، وقوله تعالى:(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه) (الزلزلة ـ 7)، فهذا فرحه عند فطره، فكيف بفرحه بصومه عند لقاء ربه؟!) (أ هـ).

أسأل الله تعالى أن يتقبل منا ومنكم رمضان، وأن يبقينا إلى رمضانات عديدة في أزمنة مديدة، إنه سميع قريب، ورحيم مجيب، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.
[email protected]