قراءة في ندوة "فقه رؤية العالم والعيش فيه ـ المذاهب الفقهية والتجارب المعاصرة"

ـ الإيمان ليس فقط إيمان المؤمنين، بل يشمل أمن الآمنين، وسلامة السالمين، واستقرارية الشجعان

ـ حالة النفاق علامةٌ على تهرب المرءِ من مسؤوليته الأخلاقية عن السلام في المجتمع

ـ على المرء أن يحافظ على صورته الإنسانية الجميلة في عيون الآخرين وتقديم الخير لجميع بني البشر

قراءة ـ علي بن صالح السليمي:
بمباركة سامية من لدن حضرة صاحب الجــلالة السلطان قـابـوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ أقيمت خلال الفترة من 25 الى 28 جمادى الاولى 1434هـ الموافق 6 الى 9 ابريل 2013م ندوة تطور العلوم الفقهية والتي جاءت بعنوان:"فقه رؤية العالم والعيش فيه ـ المذاهب الفقهية والتجارب المعاصرة" وهي النسخة الثانية عشرة من الندوات التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في هذا الجانب المهم .. حيث شارك في الندوة علماء ومفكرون وباحثين من داخل السلطنة وخارجها .. وتناولت أوراق عمل وبحوثا هامة.
وضمن تلك البحوث والأوراق المقدمة .. ورقة عمل بعنوان:(مفهوم العهد ومفهوم الأمان ودار الاسلام) للباحث فضيلة الشيخ الدكتور مصطفى إبراهيم تسيريتش ـ المفتي العام السابق للبوسنة والهرسك.

يقول الباحث: إن الترجمة العامة لكلمة الإيمان بمعنى "الاعتقاد"، لا تعني المعنى الدقيق لجذر تلك الكلمة.فحروف الجذر الثلاثة لهذه الكلمة (أ، م، ن) تشير إلى مفهوم الأمن والأمان: بمعنى السلامة والاستقرارية والثقة. وبالتالي، فإن معنى الإيمان ليس فقط إيمان المؤمنين، بل يشمل أيضا أمن الآمنين، وسلامة السالمين، واستقرارية الشجعان، والاعتماد على شجاعة وثقة الجديرين بالثقة، حيث إن اسم الفاعل من كلمة الإيمان هو (المؤمن)، أي الشخص الذي يتمتع بحرية العقل، ويحظى بالأمان والمثابرة والثقة، وهو جدير بالثقة. لذا فإن المؤمن رجلٌ يوثق به لأنه واثق من نفسه، وهو واثق من نفسه لأنه يتمتع بالأمن في داخل نفسه، وإن إيمان المؤمن بالله، ناجم عن قدرته على الثقة بمشاعره الداخلية كما أن إيمان المرء يُمثِّل قدرته على إقامة التواصل بين أمنه واطمئنانه الداخلي والعالم الخارجي.
مبيناً بأن الضد للإيمان في سياق مجتمع المؤمنين ليس الكفر، بل النفاق. فالكفر هنا خارج السياق لأنه يشير إلى فكرة عدم الإيمان بالله. بينما فكرة النفاق لا تشير إلى هذا الشكل من عدم الإيمان. فالنفاق هو دعاء كاذب للإيمان بالله والثقة بالإنسان.
وقال:إن حالة النفاق علامةٌ على انعدام الأمن بداخل للشخص وتهربُ المرءِ من مسؤوليته الأخلاقية عن السلام في المجتمع. وقد جاء في الحديث النبوي الشريف عن صفات المنافق، قوله (صلى الله عليه وسلم):(آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان).
مؤكدا بأن المؤمن (الجدير بالثقة) هو النقيض تماما للمنافق، لأنه إذا تحدث صدق، وإذا وعد وفَّى بوعده، وإذا اؤتمن أدى الأمانة. عن أنس قال : ما خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلا قال: "لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له" (رواه أحمد وأبو يعلى والبزار والطبراني في الأوسط ، وفيه أبو هلال ، وثقه ابن معين وغيره ، وضعفه النسائي وغيره)، وبالتالي فإن الشخص المؤمن يتمتع بالأمن الداخلي ويأمَنُه الناس، وهو المسلم الحقيقي المحب للسلام، وهو الذي يعمل من أجل السلام، والذي يجمع بين التكافل والتعاون في المجتمع. لذا، فإننا نعلم أنّ الأرض لن يرثها المستضعفون و لا المعتدون، بل يرثُها المتعاونون علي البرّ و التقوى والمحبون للسلام. وقال تعالى:"وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ" (الأنبياء 105 ـ 106).
ثانيا – الإسلام:
وقال الباحث في هذا المعنى: إن الانتقال من حالة الإيمان، أي من الإحساس العميق بالأمن والاطمئنان الداخلين، إلى حالة الإسلام التي تعني القبول الحقيقي لفكرة السلام في مواجهة فكرة الحرب، إن هذا الانتقال يمثل الرحلة الاخلاقيّة العليا في حياة الإنسان. وكما وجدنا عند كلمة الإيمان، فإنه يوجد لدينا ثلاثة حروف في جذر كلمة الإسلام (س، ل، م) وهي تدلنا على المعنى الحقيقي للإسلام وللمسلم .. وهكذا، فإن الحروف العربية الثلاثة السين والميم واللام تدل على مفهوم السلام في الإسلام بأنه المحرك الأساسي للرؤية الكونية الشاملة عند المسلم إنه ليس من الخطأ تعريف الإسلام بأنه خضوع لإرادة الله عز وجل، ولكن فهم هذا المعنى لا يكتمل بدون إضافة هذه المعاني للإسلام: تسليم لله تعالي طواعيّة وبحرّية كاملة لإن جوهر فكرة الإسلام يكمن في الشهادة على الحركة التاريخية الإيجابية لمبدأ {لا إكراه فى الدين}.
مشيرا إلى إن هذا الإعلان القرآني في القرن السابع الميلادي فريد من نوعه، ليس فقط في مبادرته التاريخية، ولكن أيضا في الرؤية الإلهية للبشرية التي تعلمت على مر العصور بأن الإكراه ليس فقط في الدين، ولكن أيضا في أي إيديولوجية كانت، لم ولن يأتي بخير أبدا. ولذلك، أكّدت فكرة الإسلام على مبدأ أن الإكراه على الإيمان بالله أمر مرفوض من الله سبحانه وتعالى، لأن القبول والخضوع السلمين لله،هو فقط الاستسلام الصالح لله، لأن الله هو السلام،وبالتالي فإنه لا يقبل إلا العبادة السلمية والعلاقة السلمية بين بني البشر. وبطبيعة الحال، فإننا ندرك حقيقة القوانين الفيزيائية والطريقة التي يعمل فيها الكون كله أو الأكوان المتعددة طوعا أو كرها، ولكننا نتحدث هنا عن حرية اختيار الخير عند الإنسان، والتي أقرها الله له: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} (التغابن ـ 2).
والواقع، إن الخضوع السلمي لله، يقتضي وجود السلم في الوجدان، الذي يأتي نتيجةً للأمن الداخلي الناجم عن الإيمان، وهذا يعني الثقة بالله الذي نفخ من روحه في آدم، عندما كان طينا، لا حيا ولا ميتا {ونفخ فيه من روحه}، فأصبح بذلك إنسانا، وكائنا بشريا مستنيرا بعقله، لأن بقاء الإنسان مرهون باكتسابه للمعرفة، لذا يجب عليه أن يسير في طريق التعلّم، ويجب عليه أن يسلك سبيل التفكير، كما يجب عليه أن يستعملَ عقله بالكامل. وهذا هو السبب الذي يجعلنا نؤمن بأن أول شئ خلقه الله هو العقل، وكما قال الفيلسوف المسلم والصوفي العظيم الإمام محمد الغزالي:(سلطان العقل الذي هو ميزان الله في الأرض).
موضحاً بأنه إذا كان الإسلام يعني الخضوع السلمي لله سبحانه وتعالى، فإن كلمة "مسلم"، وهي اسم الفاعل من فعل أسلم، تعني حرفيا "رجل السلام"، الرجل الذي ينشر السلام في العالم. وخير تعبير عن هذا المعنى نجده في الحديث النبوي الشريف:(المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده ..)، وتلك هي فكرة الإسلام، أن يشعر الجميع، رجالا ونساء، بأنهم آمنون عند المسلم في كل زمان ومكان. تلك هي فكرة السلام والسلامة "للغير" التي دفعت الفقهاء المسلمين الأولين لكي يضعوا المبدأ القانوني والأخلاقي التاريخي المستنِدَ إلى روح الشريعة الإسلامية الشاملة، بأن كل شخص غير مسلم يعيش في مجتمع مسلم له أن يتمتع بحقوق الإنسان المسمّى الضروريّات الخمس، وهي حق الحياة (النفس)، وحق المعتقَد (الدين)، وحق الحرية (العقل)، وحق الملكية (المال) وحق الكرامة (العِرْض). ولا بد من القول إن الفقهاء المسلمين قد اعتمدوا هذا المبدأ لحقوق الإنسان الأساسية قبل قرون طويلة من اعتماد منظمة اليونسكو للإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948.
مشيرا الى أن هذه الأدلة التاريخية تبيّن أن الإسلام ليس معاديا لغير الإسلام، وأن المسلم لا يعادي غير المسلم. إن الإسلام يقاوم الفساد والظلم والإجرام والعنف؛ والمسلم يقف ضد الفساد والظلم والإجرام والعنف.
ثالثا – الإحسان:
وحول هذا المعنى قال الباحث: ان الركن الثالث في صرح السلم والأمن في الإسلام هو فكرة الإحسان، وتأتي هذه الكلمة من الجذر العربي (ح، س، ن)، وتدل على الجمال والرفاهية والخير،والصلاح. وكما تعلمنا من الحديث النبوي الشريف، أنه يجب على المرء، رجلاً كان أو امرأة، أن يحافظ دائما على صورته الإنسانية الجميلة في عيون الآخرين، وأنه يجب عليه أو عليها، معاملة الآخرين بالحسنى، وفعل الخير للآخرين دائما، وتقديم الخير لجميع بني البشر، فإن فعل ذلك، نال لقب المحسن، الذي يعمل بشكل جيد، ويفعل الخير والصواب للآخرين، ليس فقط لينال الثناء من البشر، بل ليحظى بنظر الله سبحانه وتعالى إليه، فهو الذي يرانا وما نفعل، وإن كنا نحن لا نراه. وتلك هي أعلى درجات جمال النفس البشرية، وأسمى القيم الأخلاقية عند بني البشر – ومما لا شك فيه، أن ذلك هو المثل الأعلى لمفهوم السلام في المجتمع البشري.
مبيناً بقوله: لقد حاولتُ فيما تقدم أن أبيّن أن جوهر الإسلام والمسلم يحمل في طياته رسالة السلام والأمن عبر العالم. ومن الجدير بالملاحظة أنّ اسم الإسلام، على العكس من اليهودية والمسيحية والبوذية، لم يُشتَقْ من اسم شخص، بل اشتُقَّ من مفهومٍ مُجَرَّدِ، ألا وهو مفهوم السلام والأمان. لذا، فإن الإسلام هو دين السلامِ والأمان، والمُسلمَ هو رجل السلام والأمن، ومع ذلك، فإن تصويرَ الإسلام على أنه دين العنف، وإظهارَ المسلم في صورة الرجل الإرهابي، لا ينبغي أن يزعزع إيمان المسلمين الحقيقيين بالسلام والأمن وإصرارهم على العمل من أجل السلام والأمن في العالم.
موضحاً بأنها ليست المرة الأولى في التاريخ التي يتم فيها تفسير الدين من قبل المتحيّزين، من أولئك الذين وقعوا أسرى الكراهية تجاه الآخر؛ وليست المرة الأولى في التاريخ التي يجري فيها توجيه مفهوم الدين في الاتجاه الخطأ، وليست المرة الأولى في التاريخ التي يجب فيها على ضحايا الأحكام المسبقة أن يدركوا أن الأفكار الخاطئة عنهم لن تزول من تلقاء نفسها، بل يجب عليهم أن ينهضوا ويتحدثوا عن مفاهيمهم الحقيقية عن الحياة والدين، وعن الثقافة والسلام والأمن في العالم، ولكن الكلام لا يكفي، بل لا بد من العمل بطريقة مقنعة، بحيث يكون ما يتحدثون عنه من إيمان ومواعظ وتعاليم، واقعا عمليا يمارسونه في حياتهم. وإن الأسوة الحسنة أقوى من ألف كلمة تقال في موعظة فارغة.
وقال: في الحقيقة، يجب علينا نحن المسلمين أن نعترف بوجود بعض الرجال غير المسئولين بيننا، من الذين يُلحِقون بتصرفاتهم الأذى بالإسلام والمسلمين، وهم يظنّون أنهم يخدمون الإسلام والمسلمين، لأنهم يفعلون ذلك بطريقة لا أحد يفهمها ولا يمكن لأحد أن يقبلها. إنهم ينشرون مفاهيم خاطئة عن الإسلام والمسلمين بطريقة نحتاج معها لأجيال وأجيال يعملون بجد واجتهاد لتصحيحها. إن الظلم الذي يقع علينا لا يعطينا الحق بأن نكون ظالمين. والله سبحانه وتعالى يدعو المسلمين إلى تعزيز السلم وتحقيق العدالة حتى مع أعدائهم، عسى أن يغيّر ذلك قلوبَهم ويحولَهم إلى أصدقاء: {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} (فصلت: 34)، وهذا هو مفهوم الأمان في الإسلام، فقد جعلُ جميع الناس يشعرون بأنهم أصدقاء فيما بينهم، وخاصة في مجتمع متعدد الثقافات والأديان والأعراق واللغات، كما هو الحال في المجتمع العالمي اليوم.
ـ دار الإسلام:
وقال: قبل تناولنا لقضيّة دار الإسلام فى أوروبا نودّ أن نورد هنا بعض مفاهيم لموضوع دار الإسلام و دار الحرب عند بعض علمائنا القدامى والمحدثون.
فمن طبيعة الإسلام، يقول الكاتب محمد عمارة: (أنه دين الجماعة، وكثير من فرائض الإسلام وتكاليفه هي فرائض جماعيّة المخاطب بها الأمّة، ولهذه الحقيقة الإسلاميّة أقام الإسلام للمسلمين كيانًا موحّدًا واتحاديًّا بمعالم جامعة خمسة وهي الوحدة في: العقيدة، والشريعة والأمّة، والحضارة، ودار الإسلام. وهذه الجوامع الخمسة تتنوّع وتتمايز باختلافات في التصوّرات والاجتهادات والمصالح والعادات والتقاليد والأعراف، ولكن ذلك كله يبقى في إطار الوحدة الإسلاميّة الذي يحفظ التنوّع، ويَقي من التمزّق والتشرذم والشقاق).
مؤكدا انه من جوامع وحدة المسلمين الخمسة الرئيسة هي دار الإسلام، ولذا يتعيّن علينا هنا إيراد بعض الآراء لعلمائنا الأجلّاء هذه المسئولة. وقد ذهب الإمام الشيخ أبي زهرة إلى أن الدور ثلاثة: دار الإسلام ودار الحرب، ودار العهد.. وللتوضيح فكما يقول الدكتور يوسف القرضاوي بأن التقسيم الثنائي عُرف قديمًا وحديثًا باعتبارات شتّى، فالرومان كان العالم عندهم ينقسم إلى رومان وبرابرة، وقد شهد العالم من مدّة قريبة في القرن العشرين انقسام العالم إلى معسكرين المحور والحلفاء، والآن عالم الشمال وعالم الجنوب.
وقال: وسنتناول بتبسيط وإيجاز مفاهيم المصطلحات التالية في الفقه الإسلامي:
دار الحرب وهي: كل مكان يسكنه غير المسلمين ولم يسبق فيه حكم إسلامي، أو لم تظهر فيه قط أحكام الإسلام، هكذا عند السادة الشافعيّة، أو هي: كل بقعة تكون أحكام الكفر فيها ظاهرة، وقد وضّح ذلك الشيخ يوسف القرضاوي بقوله: "هي التي يكون السلطان فيها لأهل الكفر، فلا تجري فيها أحكام الإسلام، ولا تقام فيها شعائره، ولا يأمن أهلها بأمان المسلمين".
موضحاً انه من المفيد هنا الإشارة إلى أن ذلك كما هو واضح لا يعني أن وقوع الحرب فعلاً مرتبط باستخدام هذا المصطلح، وإنما المراد كما عند السادة الفقهاء الأحناف: كل ما ليس بدار الإسلام، وإن لم تقع معها حربٌ (بالفعل)، فهناك حرب (بالإمكان والاحتمال) قد تقع، فدار الحرب بناء على ما تقدّم كما جاء في تنوير الأبصار وشارحه في الدر المختار هي: "دار تجري فيها أحكام الكفر على سبيل الإشهار والظهور، ولا يحكم فيها بأحكام أهل الإسلام مطلقًا"، ودار الإسلام: "هي كل بقعة تكون أحكام الإسلام فيها ظاهرة، وهي الدار التي تتوافر فيها شروط:
(أ) أن تظهر فيها أحكام الإسلام وشعائره ولو جزئيـًّا، مثل بناء المساجد وإقامة الجماعة والجمع، وصيام رمضان، وأحكام الأسرة، قال الإمام أبو يوسف: (وتعتبر الدار دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها، وإن كان جلّ أهلها من الكفار..)، (ب) أن تكون السلطة فيها للمسلمين وإن كان جلّ أهلها غير مسلمين، (ج) أن يأمن المسلمون فيها على أنفسهم بحكم إسلامهم، وأهلُ الذِّمّة بمقتضى عقد ذمّتهم، ونقل الشيخ القرضاوي عن الإمام الحلواني وهو من فقهاء الحنفيّة في القرن الخامس الهجري قوله: ألا ترى أن دار الحرب تصير دار إسلام بمجرّد إجراء أحكام الإسلام فيها إجماعًا، وذهب السّادة الشافعيّة إلى أن دار الإسلام لا تتحوّل إلى دار حرب بحال من الأحوال، وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن دار الإسلام لا تصير دار كفر إلا بثلاثة شرائط:
(1) ظهور أحكام الكفر فيها بأن لا يحكم بحكم أهل الإسلام فيها،(2) أن تكون متاخمة لدار الكفر فلا يتخلَّل بينهم بلدة من بلاد الإسلام، (3) ألا يبقى فيها مسلم ولا ذمّي آمنًا بالأمان الأوّل، وهو أمان المسلمين له بعقد ذمّته.
ومرجع ذلك أنَّ الإمام أبا حنيفة رحمه الله يلحظ جانب الأمن في تقرير حالة الدّار فإن بقي الأمن في دار الإسلام للمسلمين فتبقى دار إسلام لأنهم يقيمون إسلامهم دونما عَقَبات، لكن عندما يتحوّل الأمن عنهم لغيرهم وينزل بهم الخوف فلا يؤدّون شعائرهم، وتظهر الشروط الأخرى معها فتتحوّل الدار بحكم الواقع من دار إسلام إلى دار حرب.
وقد نقل الدكتور عبد الكريم زيدان عن الإمام الاسبيجابي من فقهاء الأحناف في القرن السابع الهجري عندما غزا التتار بلاد الإسلام قوله: "وقد حكمنا بلا خلاف بأن هذه الديار قبل استيلاء التتار عليها كانت من ديار الإسلام، وأنه بعد الاستيلاء عليها بقيت شعائر الإسلام كالأذان والجُمع والجماعات وغيرها، فتبقى دارَ إسلام"، ومثل ذلك نقل عن الإمام الحلواني، ومن المفيد أن ننقل هنا ما استخلصه بقوله: والخلاصة المستنبطة من رأي الإمامين الاسبيجابي والحلواني: "أن دار الإسلام لا تكون دار حرب بمجرّد استيلاء دولة كافرة عليها ما دام يجري فيها بعض أحكام الإسلام"، ويضيف الدكتور القرضاوي قوله معقِّبًا: "ما دامت غير متصلة بدار الحرب".
.. للحديث بقية الأسبوع القادم.