د.جمال عبد العزيز أحمد:
لغة القرآن الكريم لغة ربانية، عطاؤها لا يُحَدُّ، بل يفيض، ويمتدُّ، ولا تشبع من تجوال النظر في رياضها، ولا تمل من اعتباق رحيق عطائها، وتنسُّم مسك عبيرها، ونقطف في هذه السطور بعضًا من ورودها، ونسلِّط الضوء على بعض من كلماتها، وحروف معانيها ، نستجلي جمالها، ونستروح أريجها، ونتذوق كمالها، وعظيم جلالها، وجميل عطاءاتها، وكريم قيمها ودلالاتها.

وحروف المعاني هي تلك الحروف التي لها معنى أساسيٌّ عامٌّ في نفسها، ولها معنًى سياقيٌّ في جملتها، وهي تخالف حروف المباني التي تتركب منها الألفاظ، وتُبنَى منها الكلماتُ كالراء والجيم واللام التي تتكون منها كلمة (رجل)، أو الخاء والراء والجيم التي يتكون منها الفعل (خرج)، لكنَّ حروف المعاني هي حروف لها معنى في نفسها، ويزيد معناها في جملتها، وفي سياقها كحروف الجر، وحروف النصب، وحروف الجزم، وحروف التوكيد، وحروف الجواب، وحروف النفي، وحروف النداء، وحروف العطف، وحروف القسم، وحروف الشرط، وغيرها من الحروف التي تقوم بالربط بين الأفعال والأسماء، وتمتِّن بين علاقات الكلمات، وتُحْدِثُ سبكا وحبكا بين التراكيب، والعبارات، وفي هذا اللقاء نبيِّن دور حروف المعاني في السياق القرآني في سورة الليل، التي يقول الله تعالى فيها:(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى، وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى، فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى، وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى، وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى، إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى، وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى، فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى، لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى، الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى، وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى، الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى، وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى، إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى، وَلَسَوْفَ يَرْضَى).

هذه السورة الكريمة بدأها القرآن الكريم بعدة أقسام، حيث أقسم بالليل عند دخوله، وغشيانها، وتغطيته الكون، وأقسم كذلك بالنهار حين يتجلى، ويعم نوره هذه البسيطة، ثم أقسم بنفسه، أو بخلقه الذكرَ والأنثى، أيْ بقدرته على إيجاد البشر بنوعيهم المتكامل: الذكر، والأنثى، على ما في ذلك من إعجاز بكل معانيه، وكامل مبانيه، وشامل مراميه، (وليس الذكر كالأنثى)، وواو القسم من حروف المعاني، كما أشرتُ سلفًا، والله لا يُقسِم إلا على عظيم، يتناسب مع عظمته، وجليل مشيئته، فالليل عند تغطيته وتغشيته الكونَ أمرٌ خارجُ عن إرادة البشر، فالجميع يدخل تحت مشيئته، لا يَشِذُّ أحدٌ من تحت إرادته، فجميع الخلق داخلون في ليله، و(إذا) هنا بمعنى (حين)، فهي ظرفية، لا شرطية، تفيد مدلول الزمان، فلكلمة (إذا) ثلاثة استعمالات في لغة العرب:(إذا الشرطية الظرفية، وإذا الظرفية فقط ـ وهي ما معنا الآن ـ وإذا الفجائية)، وقد بيَّنت واو القسم دلالتها في السياق، وأظهرت عظمة المقسَم عليه، وخطورته في الكون، ونفعه لكل مَنْ فيه، بإرادة ربه، ومشيئة خالقه، وبإيجاده لصالح، ونفع البشر، وهو دليلٌ، وكناية عن سعة قدرة الله، وأنها قدرة لا تُتَصَوَّرُ، ولا يمكن تخيُّلها، لكنْ، نحن نسلِّم بطلاقتها، ونؤمن بعظمتها وقدسيتها، وأنها لله رب العالمين وحده، لا شريك له، ثم جاء حرف العطف الذي يحمل القسم كذلك، (والنهار إذا تجلى)، فهنا تقابل دلالي بين طلاقة القدرة، وسعة الهيمنة، وكامل العظمة، حيث لا يملك الشيءَ ونقيضَه إلا اللهُ، فالليل غاشٍ، والنهار متجلٍّ، وهما معا يكوِّنان منظومة كونية مهمة لصالح المخلوقين، وتبرز رحمة الله رب العالمين الذي قال مبيِّنًا في سورة القصص، جلال مشيئته، وكمال عطائه لخلقه، ومدى امتنانه، ورحمته بهم:(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)، فبيَّن أن خلق الليل والنهار، وتتابعهما هو غاية العطاء، وتمام الرحمة، وكمال التناغم، وينبوع التكامل، وتمام المنة، وشمول النعمة عليهم، فالواو إما للعطف والتمكين، وإما لاستمرار القسم، وبيان الإعجاز والفضل، وبين (يغشى وتجلى) طباق وضَّح الكمال، وبيَّن الجلال، وبين (الليل والنهار) طباق إيجاب، فبيْنَ الآيتين في مجموعهما مقابلة، أو تقابل دلالي تعدَّى مجرد الطباق في اللفظ، إلى التقابل في المعنى، والصورة القرآنية ، ورسَم صورةً متكاملة لسعة فضل الله، وكمال رحمته، واتساع ملكه، وتمام قيوميته، وكامل عظمته، وشامل هيمنته على كل كونه، وملكوته الرحب.

ثم يستمر التواصل المعنوي، ويتنامى سياقُ تبيينِ العظمة، وإيضاحِ مناحي الجلال:(وما خلق الذكر والأنثى)، فالواو عطفية أو قسَمية على ما بيَّنْتُ من قبلُ، وبين الذكر والأنثى طباقٌ، وبضدها تتميز الأشياء، والضد يُظهِر حسنَه الضدُّ، كما بيَّن كذلك طلاقة الإعجاز، وتمام المنة بهذا التكامل بين ركني الإنسانية، وأعمدة الوجود البشري:(الذكر والأنثى)، وفيه مجال كبير لتخيل مدى الرحمة، وكمال العطاء بوجود الجزء الثاني للإنسان الذي به تمضي الحياة هانئةً، هادئةً، وتسري مركبة الحياة الإنسانية والاجتماعية سيرها المعتاد الهادئ، و(ما) هنا إما أنها مصدرية، أيْ: وخَلْق الذكر والأنثى، وإما أنها موصولة قامت فيها (ما) مقام (مَنْ)، وأتت على شاكلة (والسماء وما بناها، والأرض وما طحاها، ونفس وما سواها، فألهمها فجورها وتقواها)، كل تلك الأقسام تنصَبُّ على جواب قسم واحد هو قوله تعالى:(إنَّ سعيكم لشتى).

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.

[email protected]