مقدمة:
كلما مررت بمخيم للاجئين الفلسطينيين تذكرت قضيتهم العادلة، مأساتهم الحزينة، فإذا ما توغلت بداخل احدها، ستجد السلاح والمسلحين، وصورا لقادة رحلوا او مازلوا على قيد الحياة، ومجموعة من الكتابات التي جلها حنين الى فلسطين وتمسك بالعودة اليها.
هي قضية مقدسة مرت عليها عشرات السنين ولم تزل حاضرة، اذ مازال شعبها كريما في ضحاياه من اجلها، مقداما يتسابق لفك اسرها، فتراها متوهجة دائمة الحضور، لاتغيب اطلاقا من البال، ومن الاعلام ومن الاهتمام، رغم انها في السنوات الاخيرة نالت حظوة اقل من السابق الا انها ظلت طاغية على ماعداها من قضايا.
واذ ترسم قضية فلسطين ذلك الحضور المميز، وتتحول من منسية في الماضي الى معلنة دائمة، فهنالك قضايا عربية منسيات نعيش على تماس معها لكنها خارج الاهتمام رغم انها حارة ولها من نسب عربي الشيء الكثير. فهل مازلنا نذكر لواء اسكندرون السليب، وسبتة ومليلة، وغيرها .. وربما نخاف مثلا ان يدخل تاريخ بعض الاراضي العربية الحالية مساحة النسيان اذا توقف القتال من اجل استعادتها الى الوطن حرة عزيزة كما كانت.
/// فلسطين
تهزني لفظة فلسطين سواء قلتها او سمعتها، انها الاسم الذي عايشني واكاد اكون ابن نكبتها والمرحلة السوداء من عمرها .. هي اكثر الموضوعات التي قرأت عنها، وهي ايضا ماعشته وعايشته من ألم وسياسة واحتكاك بالمجتمع الفلسطيني .. كان المخيم بالنسبة لي بحثا عن كشف ، فما ان دخلته لأول مرة حتى اننابني شعور الداخل الى معابر تكاد لا تتنفس هواء. قبل الفلسطينيون بكل شروط العيش ، لأنهم آمنوا دائما بالعودة ، فالصبر بالنسبة اليهم كان علامة حياة ، او على الاقل من اجل ارض تنتظرهم وينتظرون الموعد معها.
لم ننس فلسطين فهي الضمير المسكون فينا، وهي الروح التي نستمد منها القدرة على الصبر، فصبر الفلسطينيين لايعادله صبر في العالم، انه قدرة وتمكن على الانتظار من اجل عودة لابد منها الى ديار الوطن المنتظر.
تربت طفولتي على مأساة الشعب الفلسطيني .. كنت اسمع عن كيف يعذب اليهود اخصامهم، فصرت ارى في كل وجه غير مألوف يهوديا. وعندما تقدمت نحو الفتوة، كنت اسمع الاناشيد الفلسطينية من اجل ان افهم معنى ذلك المكان الذي تم شطبه من على خارطة العالم، مما جعلني اتوه في معرفته.
شاء وعي الفلسطيني ان يكون على يد فتيات كن يغنين في باص رحلة مدرسية عن رجل يذهب لمقاتلة اعدائه ولن يعود فاذا بابنه يستسمح امه ان يلحق به. سألت يومها من هو هذا الرجل فقالت لي تلك الفتاة انه الفدائي الفلسطيني وهو ابي الذي استشهد وهو يحاول العودة الى ارضه. وعن اي ارض تتحدثون، كان سؤالي البسيط الذي يتجانس مع عقل صغير، فردت انها فلسطين.
وتدريجيا بدأت التعرف عليها، كانت كتب غسان كنفاني اول طلة على موهوب قدم لنا فلسطين كما يجب ان تقدم من خلال لغة جميلة بسيطة وحكايات منطقية .. ويوم اطلق الرئيس عبد الناصر حيويته المشهورة تجاه تبني القضية الفلسطينية، كان الفهم العميق لتلك المأساة التي وقعت في العام 1948 حين تآمرت بريطانيا مع المتوحشين اليهود الذين كانوا يألفون القوة العسكرية الضاربة والتي فتكت بالشعب الفلسطيني، ثم تحولت الى جيش كبير قاتل جيوش العرب وهزمهم ..
حيوية الشعب الفلسطيني لم تتوقف عند حد البكاء على الاطلال، فمنذ ان وقعت النكبة مارس الفلسطينيون اعمالا عسكرية بدائية منها ماكان فرديا ومنها ماتحول الى عمل جماعي، لكن المؤامرة كانت اكبر من حركات من هذا النوع، فالذي وعد عام 1917 وهو بلفور باعطاء اليهود وطنا قوميا، كان واضحا انه لن يتركهم وشأنهم بل سيقدم لهم كل الامكانيات التي تتيح اقامة دولة هي في الحقيقة كيان استيطاني.
منذ الخمسينات من القرن الماضي كانت روح الشهادة الفلسطينية متجذرة في عدة تنظيمات تفتقت، فكانت " حركة القوميين العرب " التي اسسها الدكتور جورج حبش والدكتور وديع حداد في الجامعة الاميركية ببيروت وفيها دعوة صارخة للكفاح السملح عبر شعار " وحدة تحرر ثأر " . وان ظل الأمل بسيطا في تحقيق مآلات هذا الشعار، الا ان روح المقاومة الفلسطينية كانت تجسده، وهي ايضا روح ممتدة الى ماقبل النكبة حين وقعت ثورات مختلفة في فلسطين كانت كلها تحت وطأة الاحساس بما ذاهبة اليه فلسطين من ضياع. وكتب يومها الكثير من امثال انطون سعادة الى امين الريحاني الى عديدين عن الخطر الصهيوني، لكن ضعف الأمة العربية وتفتتها وقلة ادراكها وعدم صحوتها ونفوذها، جعل من هدف ضياع فلسطين حالة لابد من وقوعها.
اليوم نكتب عن مرحلة قضت، لكنها عبرة زمانها .. فالعرب الذين كانوا خمس دول عام انشاء جامعة الدول العربية في منتصف الاربعينات من القرن الماضي، صاروا اليوم اثنتين وعشرين دولة والحبل على الجرار اذا فتحنا عقل برنارد لويس الذي رسم مخططاته الجديدة على اساس ان تصبح عدد الدول العربية فوق الخمسين.
أريد من هذه الكتابة ان لا ادون تاريخا بات معروف التفاصيل، بل لاقول ان نكبة فلسطين كادت ان تصبح من المنسيات التي تعيشها قضايا عربية اخرى سنتحدث عنها لاحقا، لولا قامة شعبها واحتضان الشعوب العربية لها، ثم يقظة العالم عليها باعتبارها مأساة كونية ايضا. ولأنها مازالت حية، فقد فرضت شروطا على واقعها والواقع الصهيوني والواقع العربي وعلى الواقع العالمي في كافة اتجاهاته. وهي اليوم تقترب من ان يعترف بها العالم كدولة، مع ان الحقيقة المطلوبة تقول بان فلسطين هي من البحر المتوسط الى نهر الاردن ومن الناقورة الى رفح، ويوم كانت مقاومتها بخير قالت احدى الاغنيات وهي ترسم واقعية وجودها الميداني " من رفح للناقورة بتلاقينا / ثورتنا بكل قرية ومدينة ".
على كل حال، خرجت فلسطين وقضيتها دائما من دائرة القضايا المنسية لتظل وهج الأمة وحقها الطبيعي في نيل حريتها بكافة الاشكال كما يقول بعض السياسيين الحاليين الفلسطينيين الذين بعتبرون خطأ ان بالامكان تحقيق شعار الدولة ببساطة اذا قبل الاسرائيلي، وانه من خلال الصراع السياسي يمكن الوصول الى هذا الأمر مع كيان يأكل الارض بالتقسيط حتى صارت تقريبا ارضه المسيطر عليها. واذا ماقامت تلك الدولة الفلسطينية المزمع قيامها، تكون اسرائيل ال 48 كلها لها ، والضفة الغربية تحت تصرفها.
لن تكون فلسطين من المنسيات وهي نور الحق وسيفه .. وبها زياد ابو عين، واحمد ياسين والرنتيسي، وجورج حبش ووديع حداد وياسر عرفات وغسان كنفاني والملايين التي كتبت اسمها بدمها، وما بقي من تلك الملايين، من اثني عشر مليونا يسكنها جزء منها، وفيالشتات وفي كل انحاء العالم.
ولن تكون فلسطين من المنسيات لأن خيارها الوحيد ان تعيش على جرح لم يلتئم الا بعودة ابنائها .. قدرها انها اختارت الحرية ولسوف توهب لها في لحظة تاريخ لعله بات قريبا.
عندما حمل شعبها السلاح زغردت الدنيا واستجابت الاقدار، وانشد العالم فرحا بذلك الخيار الذي وحده مايلبي طموح شعب يسكن وطنه في قلبه بينما يسكن الجميع اوطانهم. جاء الفلسطيني الثائر كالزلزال ، اعطى اللحظة قيمتها ، قدم لوحة بطولة ونضال ولم يمش ، ظل قاعدا ينسل من واحد الى آخر، ومن جماعة الى اخرى، ثم يتكاثر المقاتلون ليصبح كل فلسطيني موصوفا بانه ثائر. وضع تشي جيفارا فلسطين في رأس القائمة التي اعطاها عمره، وظلت محبوسة في فؤاده، وحتى في نزاعه الأخير ذكرها، أليست هي مفردة بصيغة الجمع، ستظل مشتعلة الى ان يحين قطاف الدم الغاسل وحده اعتاب مدنها وقراها واريافها ، ان تتشقلب صفد في الشمال لتلثم بئر السبع في الجنوب، ومعها اريحا عند النهر لتتحد مع حيفا ويافا على البحر المتوسط ، ان تصبح فلسطين كلها عجينة واحدة، وحدة واحدة متماسكة. هي الثورة التي يريد البعض اليوم تناسيها، ان ذكرى الاقلام التي كتبت لم تحرر فلسطين، اعطاها الكلاشينكوف وعدا اذا ماتمسكت به ستظل جاهزة للحياة، وعلى امله ستعيش وتحيا، وبه ستجد النصر المؤزر.
عالم لايحترم الضعفاء، كل ضعيف منسي الى حين يثبت قوته، اما فلسطين فلن تكون لأنها ماكانت ضعيفة لافي الماضي ولا في الحاضر ولا في المستقبل .. لقد صنعت حياتها شهادة، قدمت شهداءها كلما تنشقت عبارة " ثورة حتى النصر " .. لن تكون من المنسيات مادام لها شعب اوصى الكبير صغيره بها ، واوصى الصغير ابناءه ، وستظل الوصايا قائمة والرايات مرتفعة في السماء ، والدم الغالي يرخص لاجلها .. فخذوني الى بيسان كما قالت فيروز بصوتها الشجي، الى طولكرم، الى الابحار في عنب الخليل حيث تتماوج عبارات الشاعر عز الدين المناصرة، الى اجمل الامهات التي انتظرت ابنها فعاد شهيدا كما يقول الشاعر حسن عبدالله، الى لوحة العودة التي انتظمت الوانها بتوقيع تمام الاكحل واسماعيل شموط، الى اصابع ياسر عرفات وهي ترفع اشارة النصر، الى حلم غنسان كنفاني يوم اوقد شمعة فلسطين على ورقة ونسيها للتاريخ، الى ذلك البطل الياباني الذي جاء من بلاده ليصنع في مطار بن جوريون شوقا الى فلسطين، الى كل احرار العالم ومنهم كارلوس القابع في سجون فرنسا لأنه احيا في دمه عشق فلسطين، والى جورج عبدالله الذي يسكن تاريخا مليئا بالنضال من اجلها ..
لن تكون فلسطين من المنسيات لأنها ذاكرة متفتحة موجودة في عقول عاشت واخرى تعيش وتلك التي ستعيش الى آخر السلسلة التي بلا نهايات. عالم فلسطين كأنه يولد لتوه، دائما هنالك من يعطي دمه لها، كل يوم وكل ساعة وكل دقيقة وثانية هنالك واهب لحياتها ، فكيف تكون من المنسيات .. ابدا لن تنسى.
/// لواء اسكندرون
في المرحلة الاعدادية من دراستي، جاءنا الى الصف فتى يدعى ميشال طويل، كان يتحدث العربية بطلاقة لكنني مع الوقت اكتشفت انه يجيد التركية وحينما سألته اين تعلمها قال لي انه من لواء اسكندرون وقد جاء اهله الى لبنان حين احتلته تركيا .. اصغيت الى الأسم، كنت اسمع به لأول مرة، فلم اكترث وانا في عمر صغير يصعب فهم ابعاد الاشياء, لكني وبعدها بسنوات قليلة تجدني وانا اقرأ تاريخا من الكتب السورية اعثر على كنز ثمين اسمه اسكندرون ، فيتردد الاسم مجددا ، واميل الى الحلم من جديد، فلقد عرفت التفاصيل وكيف حصلت المؤامرة التي تم من خلالها اقتطاع هذا الجزء العزيز من سوريا ليلحق بتركيا. انها لعبة الأمم التي تعوم على مصالح.
تقول المعلومات المستقاة من مصادرها ان هذا اللواء مازال الى اليوم يعتبر في سوريا المحافظة الخامسة عشرة، رغم كونه منذ العام 1939 تابعا لتركيا، .. في التاريخ ان اللواء السليب كان تابعا لولاية حلب ضمن سوريا العثمانية، مشكلة مرفأها على البحر المتوسط، ومثلت في المؤتمر السوري العام ورغم اعتبارها دولة مستقلة في اعقاب صدور مراسيم التقسيم، غير انه اعيد ربطها بالدولة السورية عام 1926، وعاصرت اطلاق الجمهورية السورية الاولى .. عام 1938 قامت فرنسا بخطوة تآمرية غير مسبوقة اذ اعادت منح اللواء حكما ذاتيا مع بقائه مرتبط شكليا بالجمهورية السورية ثم اعادت الغاء الربط الشكلي، وكما فعلت بريطانيا في فلسطين بانها جهزت الارضية التآمرية على فلسطين قبل انسحابها، فعلت ايضا فرنسا بجهيزها المناخ التآمري ايضا، حيث ما ان انسحبت حتى دخلت قوات تركيا الى اللواء وقامت بضمه واعلانه جزءا من الجمهورية التركية تحت اسم هتاي..
واذ نرحل في تاريخ اللواء السليب فنرى ان العرب المسلمين وصلوا بزحفهم عام 16 للهجرة الى جبال طوروس وضموا المنطقة الجنوبية من اللواء الى حكمهم .. وفي العهد العثماني كان اللواء سنجقا تابعا لولاية حلب. واذا مارجعنا الى مراسلات الشريف الحسين بن علي مع مكماهون ففيها اشارت واضحة بتبعية المناطق الواقعة جنوبي جبال طوروس الى الدولة العربية التي كان مزمع اقامتها .. ومع بدء الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان تبع اللواء ولاية حلب، واذاعدنا الى اتفاقية سايكس بيكو نجده داخل المنطقة الزرقاء التابعة للانتداس الفرنسي بمعنى ان المعاهدة اعتبرته سوريا، وفي معاهدة سيفر 1920 اعترفت الدولة العثمانية المنهارة بعروبة الاسكندرون وارتباطها بالبلاد العربية.
ونمضي في التاريخ المخصص للواء، لنقول انه في العام 1937 اصدرت عصبة الأمم قرارا بفصل اللواء عن سوريا وتعيين حاكم فرنسي له، ثم وفي يوليو من العام 1938 دخلت القوات التركية بشكل مفاجيء للرأي العام السوري الى مدن اللواء وادى ذلك الى هروب الكثيرين من ابنائه الذين لجأوا الى سوريا ولبنان وفي طليعتهم الشاعر العربي الكبير سليمان العييسى، وكان من نتيجة المؤامرة المدبرة بين فرنسا وتركيا ان تراجع الجيش الفرنسي الى انطاكية، وقد ثبت ان كان هنالك اتفاق اخذت بموجبه فرنسا ضمان دخول تركيا الى صف الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. ومن المؤسف انه في العام 1939 جرى استفتاء على حول الانضمام الى تركيا ففاز فيه الاتراك بعدما شكك العرب بنتائجه وخصوصا ان الاتراك لعبوا بالاصوات لصالحهم .. فكان من جراء ذلك ان ابتدأت سياسة التريك بتهجير العرب سكان الارض الاصليين الى بقية الوطن السوري، ونشأت مشكلة الاراضي حيث سرقت كل اراضي السوريين الزراعية في تلك المنطقة دون ان تدفع تركيا اموالا للعرب المتضررين ثم قامت تركيا بتغيير كافة الاسماء من العربية الى التركية ..
خلق هذا الوضع الجديد جوا من العداء والتوتر بين سوريا وتركيا ظل مسحوبا الى اليوم .. وقد تسنى لي ان استمع الى شخصية عربية تسكن اللواء كانت تحاور عبر احدى المحطات الفضائية تشكو من ان اللواء اصبح منسيا وان لا احد يتحدث عنه وان عربه متألمون جدا من هذا النسيان وانهم يحلمون بالعودة الى احضان الام الاولى سوريا.
صحيح ان اللواء منسي لكنه مازال مقيما في قلوب السوريين الذين شربوه كحليبهم اليومي. واذا كانت فلسطين مأساة الأمة كلها، فان اللواء سيطل بعد حين ليعود الى واجهة الاحداث كجزء من سوريا، كقطعة منها وهي أمه وتاريخه، فكيف ينسى!!.
وعن اللواء ايضا نذكر ان غالبية سكانه كانوا من عرب سوريا الموزعين بين السنة والعلويين والمسيحيين العرب والارمن ولم تتجاوز نسبة تركمان سوريا في ذلك الوقت 39 بالمائة .. وبعد سلخ اللواء نزحت الى دمشق وحلب وحمص واللاذقية وغيرها اعداد كبيرة من عربه، مع استثناء صغير لبلدة كسب الارمنية التي كانت تابعة للواء فعدلت المفوضية الفرنسية الحدود بحيث اتبعتها الى محافظة اللاذقية.
لم تتوقف الاحتجاجات ضد سلخ اللواء عن سوريا، فقامت تظاهرات واحتجاجات عام 1939 وتم الاطاحة بحكوم جميل مردم، ثم استقالة الرئيس هاشم الاتاسي، ومع المشاريع التآمرية على المنطقة، ونتيجة تمسك سوريا باللواء السليب كجزء منها، ظلت خارج الاهتمامات والتحالفات، خصوصا بعد طرح مشروع حلف بغداد عام 1957 لكون تركيا عضوا فيه، ثم توترت العلاقات مع تركيا مجددا في هذا العام حيث دعي الاسطول المصري الى اللاذقية للدفاع عن سوريا.
اما انطاكية التي هي جوهرة اللواء السليب وعاصمته، فهي مقر بطريرك انطاكية، الرأس المحلي للكنيسة السورية بشقيها البيزنطي والسرياني، ومنه خرجت شخصيات بارزة على مستوى العالم مثل اغناطيوس الانطاكي، ويوحنا فم الذهب، في حين مازلنا نذكر الى اليوم شخصيات متعددة خرجت منه ومنهم المفكر العربي زكي الارسوزي ، والشاعر سليمان العيسى، ورئيس الدولة صبحي بركات.
يسكن اللواء حاليا حوالي مليون نسمة ولا يوجد اي تعداد للنسبة العربية من سكانه بسبب سياسة التركي وقمع الاقليات القومية، ولكن السكان العرب يشكون من القمع الثقافي واللغوي والعرقي الذي تمارسه تركيا عليهم والتمييز ضد الاقلية العربية في كل المجالات.. لكن هنالك تواصل بين سكان اللواء وبين اقاربهم واهلم في سوريا بمناسبات واعياد مشتركة ..
مازالت سوريا تعتبر اللواء جزءا من ترابها الوطني، واذا ماتمعنا بالخرائط السورية وتلك التي يضعها التلفزيون الرسمي في نشرات اخباره وغيرها فلسوف نجد ان الخارطة تحوي اللواء كجزء من الاراضي السورية .. وفي العام 1998 كادت ان تتفجر عاصفة قوية بين تركيا وسوريا تؤدي الى صراع عسكري، من اجل حزب العمال الكرددستاني .. كما تم الاتفاق على تأجيل امر اللواء لوقت لاحق ..
قولة الحق تقول ان سوريا لن تتخلى عن لوائها السليب وسيظل هاجسها الدائم بانتظار الظروف التي تسمح باعادته اليها .. وهي اليوم متمسكة به اكثر من اي وقت مضى، وترى فيه نجمها وضوءها المشع عليها. ثم وان كان منسيا كما هي الظروف الحالية الصعبة التي تمر بها سوريا، فلا يعني ذلك الصمت انه خارج اهتمامها.
/// سبتة ومليلة
ودائما يبدو ان وطننا العربي لديه منسيات وان كان لاينسى.. واذا لم يكن للحكومات ذاكرة فان للشعوب ذاكرتها التي لاتخطيء وهي حية على مدار الحياة. فاذا كانت اسكندرون حية في ضمير سوريا والعرب، فان منطقتي سبتة ومليلة التابعتين للمغرب حية ايضا في الضمير المغربي، ونحن هنا في الشرق لنا ذاكرتنا التي لاتنساهما ايضا.
سبتة هي مدينة مغربية تقع مقابل مضيق جبل طارق وتحتلها اسبانيا ويتألف سكانها من المسيحيين والمسلمين مع وجود اقلية يهودية وهندوسية. وقد اصبحت المنطقة تتمتع بحكم ذاتي داخل اسبانيا بقرار من البرلمان الاسباني عام 1995. اما مليلة فهي مدينة مغربية الجذور اسبانية ذاتية الحكم تحيط بها الاراضي الريفية المغربية من كل الاطراف. ولأنها جزء من المملكة المغربية تاريخيا، فهي ترفض حاليا الاعتراف بشرعية الحكم الاسباني عليهما وتعتبرهما جزءا لايتجزأ من التراب المغربي، حيث يتمتع سكانهما من اصل مغربي بحقوق كاملة داخل المغرب كمواطنين مغاربة، ويطالب المغرب اسبانيا الدخول في مفاوضات مباشرة معها لاجل استرجاعهما، كما تعتبرهما احدى اواخر عهود الاستعمار في افريقيا.
تضيف المعلومات انه على الرغم من العلاقات الاقتصادية بين المغرب واسبانيا في حالة جيدة ، فان العلاقات السياسية والدبلوماسية بين البلدين لاتتناسب وحجم التبادل الاقتصادي والتجاري، وتعكس هذه العلاقات عمق الخلافات الجانبية العديدة التي تمتد في جذور التاريخ والحقبة الاستعمارية ابان النصف الاول من القرن الماضي، لكن تظل قضية سبتة ومليلة وبعض الجزر المغربية اهم القضايا الثقيلة التي تجعل العلاقات بين المغرب واسبانيا تتأرجح بين الهدوء والتوتر.
تقول المعلومات ايضا ان بداية سقوط المدينتين تحت الاحتلال الاوروبي النصراني تعود الى تضعضع امارة بني الأحمر في غرناطة في القرن الخامس عشر الميلادي حين بدأ الخلاف يدب بين امراء المسلمين في الاندلس نتيجة الاقتتال بين امراء المناطق الاندلسية، فانتهز زعماء شتالة اي اسبانيا حاليا، الفرصة للقضاء على الوجود الاسلامي في هذه البقاع الاسلامية، فيما سمي بحروب الاسترداد وكانت غرناطة آخر هذه القلاع التي سقطت عام 1492 والمعروف تاريخيا انه بعد سقوط الاندلس اطلق بابا الفتايكان يد اسبانيا في الساحل المغربي، وعلى حين سقطت سبتة بيد البرتغاليين عام 1410 بقيت مليلة تقاوم جيوش الاسبان حتى سقطت عام 1497 في اطار خطة عامة للاسبان والبرتغاليين لمحاصرة اقاليم المغرب الاسلامي واحتلال اراضيه ومن ثم تحويلها الى النصرانية .. وقد حاول المغاربة في القرون التالية لاحتلال المدينتين من استعادتهما من قبضة الغزو الصليبي وكان ابرز هذه المحاولات محاولة المولى اسماعيل في القرن السادس عشر حين حاصر المسلمون في هذه الفترة مدينة سبتة ولم يقدر لهم ان يفتحوها، وكذلك محاولة المولى محمد بن عبد الله عام 1774 لمحاصرة مدينة مليلة ولم يفلح المسلمون في تخليصها من يد الاسبان .. وقد بذل سكان المدينتين من المسلمين جهودا كبيرا للتمرد على واقع الاحتلال في نهايات القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين، وبين عامي 1921 و1926 قاد البطل المغربي عبد الكريم الخطابي الذي يعتبر بطل الريف المغربي ثورة ضد الاسبان، لكن اسبانيا تصدت له بالتحالف مع دول اوروبية اخرى بعد ان اشعلت ثورته شرارة الجهاد في المدينتين، فيما حاول الجنرال فرانكو الذي حكم اسبانيا في القرن العشرين دغدغة المشاعر القومية لسكان سبتة ومليلة لدعمه في حربة الداخلية، اذ وعدهم بمنحهم الاستقلال اذا ما تولى السلطة في اسبانيا، واستطاع بذلك تجنيد الالاف في الحرب الاهلية الاسبانية عام 1936 دون ان يفي بوعوده لهم. وهكذا ظل هذان الثغران المسلمان يدفعان الثمن باستمرار في كل مرة، مرة لموقعهما الجغرافي الواجهة بين اوروبا وافريقيا ، ومرة لوقوفهما مع الجنرال فرنكو،.
يتضح مما مر معنا ان لاوجود لمنسيات في وطننا العربي .. هنالك فلسطين المشتعلة، وهنالك اللواء السليب اسكندرون المفتوح على مداه ،وهنالك سبتة ومليلة والحبل على الجرار ,, لكننا نخاف، ان يغزونا ليل طويل كما غزانا بالأمس وفي فترات متقطعة، فنخسر ايضا بلادا تصبح من المنسيات الى ان يأتي اليوم الذي تتغير فيه ظروف فتعود الى قاعدته الاولى.