أ.د. محمد الدعمي:
لا يبالغ المرء إذا ما ذهب إلى أن المراكز والكيانات العلمية والأكاديمية المتخصصة هي التي تمسك الآن بمفاتيح التقدم، بل والتفوق بين دول العالم كافة، بدليل الاهتمام الخاص الذي توليه دول متقدِّمة، كالولايات المتحدة الأميركية، بهذا النوع من الكيانات العلمية المختصة في مجالات معيَّنة وحدها.
وللمرء أن يلاحظ في هذا السياق بأن العالم العربي قد عرف هذا النوع من المراكز والمعاهد منذ بدايات ما يُسمَّى بــ"النهضة العربية" التي أطلقها، زعيم غير عربي، في الشقيقة مصر: وأقصد بذلك الوالي محمد علي باشا، الرجل الذي سرعان ما استحال إلى حاكم مطلق على بلاد النيل الحبيبة. لقد أولى هذا الرجل، الألباني الأصل، عناية خاصة بالتربية والتعليم وببرامجها المتخصصة الأكثر تماسًا بمصر وبحاجتها الماسَّة على نحو خاص. لذا، أسَّس مدرسة بــ"الحربية"، وأخرى خاصة بــ"الألسن" على سبيل تحقيق طموحاته الإقليمية وتوسيع الدراسات والبرامج التربوية في اللغات الأجنبية، مع وعي حاد بأهمية مصر على المستويين العالمي والإقليمي على حد سواء. وهذا ما جعل منه "مؤسس مصر الحديثة" بمعنى الكلمة.
وإذا كان محمد علي قد ترك لنا في مصر إرثًا عظيمًا لم نزل نفتخر به، عربًا ومسلمين، حتى الآن، فإن اهتمامه بالمؤسسات العلمية المختصة ينبغي أن لا يمر دون ملاحظة، بدليل الاهتمام الكبير الذي توليه الولايات المتحدة الأميركية لمثل هذه المؤسسات والمراكز والمعاهد العلمية المختصة التي لا تكتفي ببحث ودراسة وتطوير كل ما من شأنه المسُّ باختصاصاتها فحسب، وإنما تعمل بمثابرة على استقطاب كافة العقول الذكية والاختصاصيين والمبرزين في حقول عملها من كافة قارات العالم. وهكذا يضطلع المؤسسون بالبذخ عليهم وتوفير كل ما يحتاجون إليه في سبيل الفوز بالمبتكر والأصيل والجديد، كل حسب اهتمامه: فهل تصدق أن أبرز المختصين في زراعة أنواع النخيل وفي إنتاج التمور عبر العالم يعملون هناك، بدلًا عن العمل في البصرة، التي استوردوا منها الفسائل قبل حوالي قرنين!
وهكذا تنتج مزارع النخيل الأميركية أجود أنواع التمور في العالم؛ ثم تغطي السوق المحلية والعالمية بمنتجاتها قبل أن نقطف ثمار نخيلنا في العراق أو في سلطنة عمان أو في المملكة العربية السعودية بأشهر!
وإذا كان العالم العربي يمتد على مساحات شاسعة بين قارتين (آسيا وإفريقيا)، فإن الحاجة إلى المراكز العلمية المتخصصة وإلى الكليات والمعاهد من هذا النوع المفرد الهدف تتبلور الآن على نحو لا ريب فيه: فتنطبق هذه الحال على أهمية تأسيس مراكز دراسات البحار والعناية بالثروات السمكية، من بين سواها، من سخاء نعم البحار والخلجان والممرات المائية الاستراتيجية المنتشرة في العالم العربي، من نوع بحر عُمان ومضيق باب المندب ومضيق هرمز وقناة السويس وشط العرب، زيادة على "الإطلالات" البحرية التي تمسك بمفاتيح التجارة والاقتصاد العالمي، ناهيك عن الحاجة لمراكز تختص بدراسات النفط والصناعات البتروكيمياوية التي ينبغي أن تكون دولنا العربية هي السباقة في عملها.
لنلاحظ التنوع التضاريسي الموجود في دول مثل سلطنة عمان والمملكة المغربية والعراق: حيث تمتد مساحاتها الإقليمية بين الجبال الشاهقة والصحاري الجرداء، ناهيك من السهول الساحلية الخضراء: فإلى أمام نحو أكاديميات تنموية متخصصة.

كاتب وباحث أكاديمي عراقي