د.جمال عبد العزيز أحمد:
.. فحروف الفعل، وتركيبته الصرفية تجعله ينزلق انزلاقا، وكأنه يسارع بتحقيق هدفه، وهو تيسير اليسرى، وهي جمال المآل، وكمال الغاية، وهي الجِنِانُ العالية، وتحقيق الوعود الربانية السامية، والهاء الضمير الرابط في: (فسنيسره) يعود عليه، فيربط كل جمله السابقة برباط متين، وتماسك مَكين، و(اليسرى) يمكن أن تكون كذلك مؤنث (الأيسر) أيْ ييسِّره إلى الطريقة الأكثر يُسْرًا، وهي طريق الجنة في الآخرة والراحة التامة في الدنيا، فهي صفة لموصوف محذوف، حُذِفَ تيسيرا، وتخفيفا، وتحقيقًا لمعنى اليسر حتى في النطق، ولو أنك تخيلت وَضْعَ كلِّ تلك الصفات متتابعة، وسلكتها في سلك منظوم- لعلمت صفاتهم، وأدركتَ صنيعهم، فعملتَ مثلهم، فنِلْتَ أجرهم، وأمسيت عند الله مثلهم، ومكثتَ في الجنان بينهم، وأخذت قدرهم، وحققت أجرهم، ونعمت معهم بأقدارهم، وحمدتَ الله مثلهم.

وعلى الاتجاه الآخر المقابل الدلالي الذي يبرز جمالَ الصورة الأولى، وكمال عطاء الله تأتي الصورة المقابلة القاتمة لأولئك الذين باعوا آخرتهم، وأضاعوا عمرهم، وأهانوا ذواتِهم، وما أكرموا أنفسهم، حيث رسمت الآيات صورة أخرى مهينة لهم، ووضعًا تعيسًا لهم، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)، حيث بدأت بحرف العطف الذي ورد هنا لعطف الجمل، إذ متَّن بين الصورة الأولى بأركانها، ووضعها إلى جوار الصورة الثانية بأجزائها، وأقسامها، حتى تبينَ، وتتضح لكل ذي عينين، وبدأت بأداة التفصيل (أما) كما بدأت الصورة الأولى بها كذلك، لكنْ شتان ما بعد (أما) في الصورتين، حيث بدأت بالفعل البخيل حتى على نفسه؛ حيث إنه من بخله لا يصل إلى المفعول به، إذ قصُرتْ همته، وقلَّ جهدُه، فوصل إلى الفاعل فقط، أي:(بخل) هو، والفاعل نفسه مستتر، بخلًا وشُحًّا، فبقي الفعل فقط ظاهرًا ليشير إلى البخل، فهناك بُخْلٌ معنوي شُخِّصَ بالفعل (بخل) فهو بخل لفظي حيث استُعمِل الفعلُ اللازم ذو الفاعل المستتر بخلا كفعله، في مقابل كلمة:(أعطى) التي أعطت فاعلا، ومفعولين اثنين؛ دلالة على سعة العطاء، وكرم الفعل، وكمال الجود، فلغة القرآن الكريم تنطق فيها الألفاظ بما تحتها من دلالات، وتهتف بما وراءها من معان، والواو العاطفة المكملة للصورة القاتمة:(واستغنى)، والفعل كذلك جافٌّ، لازم، يقتصر على فاعله، وحذف متعلَّقه استغناءً، وسوءَ خلق، أيْ استغنى عن ثواب ربه، وعن عطاءات مولاه، وعن نِعَمِ إلهِه، وغوى، ومضى وراء شهوات ذاته، ثم الواو العاطفة الجامعة لصفاته السيئة:(وكذب بالحسنى) لم يكذبها فقط، وإنما تعدَّى أثره إلى أنْ جعل غيره يكذِّبها، حيث دخلت (الباء) هنا رغم تعدِّي الفعل، وقدرته على الوصول إلى المفعول، لكنْ راح إلى معنى آخر هو أنه كذَّب الحسنى أولًا، ثم لم يكتف بذلك التكذيب الشخصي، وراح يمكِّن غيره من التكذيب، وصار بُوقًا للشياطين، وذراعًا يمنى، قوية مُعِينَة لإبليس، فتشعر أنتَ بصورة مقزِّزة في شخصٍ يرى الحسنى قبالة عينيه، ويرى الخير شلالا بين يديه، ثم هو غبيُّ، أحمق، يكذِّبها، ويكذِّب بها، ويحمل غيره على التكذيب بها، فاستحق ما بعد الفاء عاجلا غير آجل، حيث جاءته العاقبة الكؤود، والمآل المحتوم: (فسنيسره للعسرى)، ويا لخيبة النتيجة!، ويا لخسارة المنتهى!، ويا لتعاسة المصير!، حيث يُيَسَّرُ، ولكنْ للعسرى، والكلمة بعينها الحلقية المتعِبة في النطق هي توضِّح بتشكيلتها اللفظية مصيرَه، وتبيِّن بهيئتها النطقية سُوء مسيرِهِ، وهذه الواوات، والفاءات مَتَّنَتْ بين الصورتين بتراكيبها، وجملها، وقَوَّتْ ما بينهما، حتى لكأنك ترى لوحة واحدة مرسومة تبيِّن المآل، وتوضح العاقبة في مكان واحد؛ لترى فرحة هؤلاء، وبسمتهم، وترْحة هؤلاء، وَبَكْأَتَهم، وبين الابتسام والبكاء يقفُ العقل حائرا، متفكِّرا، ساعيا إلى الصورة الأولى، نافرا من الصورة الثانية، وهو غرض من أغراض القرآن في قضية التقابل الدلالي بكل صورها، وأنماطها، ثم جاءت الواو التي توضح مدى خسارة صاحب الصورة الثانية القامة:(وما يغني عنه ماله إذا تردى) أيْ: أيُّ شيءٍ يُغني عنه، ويدافع عند تردِّيه في نار جهنم، أو ما يغني عنه ماله عند ترديه، فـ(ما) قد تكون استفهامية، وقد تكون نافية، وفي كلا التوجيهين هي كناية عن خسرانه، وبواره، وشناره، و(عن) حرف جر أفاد المجاوزة، وهي هنا تجاوزه، حيث تركه ماله، وتجاوزه، ومضى بعيدا كأنه لا يراه، وأمسى يندب حظه؛ حيث لم ينفعه، ويا لحسرة وقت التردِّي وترك صاحب المال وحيدا طريدا لم ينفعه ماله!، ولم يمنعْه غناه عند التقحُّم في النار الحامية التي تَشْوِي الوجوه، وتُذيب الأجسام، وتُسيل العظام، والفعل (تردَّى) بنطقه يبيِّن نزول صاحبه دركاتٍ بعد دركات، وتسمع صوتَ الدال تبين أنه يرتطم هنا، وهناك، وهنالك حتى يصل إلى قاع جهنم، كما وصلت الياء إلى آخر حروف التهجِّي التي تبدأ بالألف، وتنتهي في آخره بالياء:(تردى)، فقد قطع شوطا كبيرا في تردِّيه، حتى وصل إلى قاع، وقعر جهنم، وارتطم بها كصوت الدال القويِّ، المسموع عند النطق، ثم بيَّن الكتاب العزيز في نهاية السورة أن الله لم يظلم أحدا، حيث بيَّن للجميع طريق الهدى، ووضَّح لهم سبيل الرشاد، وحذرهم من طريق الضلال: "إن علينا للهدى" بحرف التوكيد:(إنَّ) المثبِّت للمعنى، ولام التوكيد التي دخلتْ على اسم (إن) المؤخر، والخبر هنا كذلك إنكاري، لاجتماع ثلاثة مؤكدات، هي (إنَّ، واللام، والجملة الاسمية) كما في:(وإن لنا للآخرة والأولى)، فالله صاحب كل شيء أولا وآخرا، وبيده كل شيء في الآخرة والأولى، ففيم الهروب؟!، ولم النكوص والتأخر؟!، فالحياة الدنيا بيده، والحياة الآخرة طوْع يديْه، فمن أراد سعادة الدنيا، وأجْرَ الآخرة فليدخل في ركن ربه، وليسلك سبيلَ مولاه، حتى يسعد في دنياه، ويفرح الفرحة الكبرى في أخراه.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية.

[email protected]