هل القراءة مفسدة ؟
حين يخيم ظلام الفكر على سماوات شعب ما يردد من يملكون مفاتيح أدمغته كلاما مثل هذا، أن القراءة مفسدة! في عصور أوروبا المظلمة، كان الباباوات والقساوسة يقصون من نعيم الجنة من يقرأ لأرسطو وأفلاطون وزينون، وفي عالمنا العربي الآن ثمة أشباه بقساوسة أوروبا في عصورها المظلمة، يرون في القراءة مفسدة، ولا ننسى تصريح عالم دين راحل كان ومازال له مكانة استثنائية في قلوب الملايين من المسلمين، حيث قال انه لم يقرأ كتابا منذ الحرب العالمية الثانية سوى القرآن الكريم، وحين يقول شيخ له نفوذه الديني في الشارع المصري والعربي كلاما مثل هذا فهو يقدم دعما قويا لأعداء القراءة، وتلك طريقتهم في الحوار: أليس كتاب الله شاملا ؟ ألم يأت على كل شيء ؟ فلِمَ نقرأ غيره ؟! فإن قدم هؤلاء شيئا من التنازل. فليقرأوا كتبا تحرض على التطرف والانغلاق.
أما الفراعنة، فقد كان لهم رأي آخر، فعلى جدار مكتبة معبد الكرنك الذي شيدوه منذ آلاف السنين في مدينة الأقصر المصرية نقشت تلك العبارة "هنا غذاء الروح" ، وما اكتملت معمارية أي معبد إلا بوجود مكتبة ملحقة به.
فإن كنا نتباكى على الحضارة الإسلامية العظيمة التي ازدهرت زمن الخلافة العباسية وفي الأندلس، فازدهار تلك الحضارة لم يكن بحد السيف، بل بالقراءة، والتي جعلت العقل الإسلامي ينفتح على علوم ومعارف الحضارات الأخرى بدون أدنى شعور بالحساسية، ولِمَ الحساسية إن كان ديننا يحثنا على التواصل مع الآخر " يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. صدق الله العظيم -الحجرات:13
والتعارف ليس بالسيف، بل بالدماغ، بقراءة ما لدى الآخر، علومه ومعارفه ومنابع ثقافته وحكمته! وعقب انتصار المسلمين في إحدى حروبهم ضد البيزنطيين جاء مبعوث الامبراطور البيزنطي ليفاوض حول ما ينبغي أن يدفع من فدية للإفراج عن الأسرى، فكان جواب الخليفة: لا نريد مالا ، بل ما يوازي وزن كل أسير من الكتب!!
ويقدم لنا "أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب بن فزارة الليثي" والمعروف باسم الجاحظ صاحب "البخلاء" و"البيان والتبيين" نموذجا لمدى اهتمام المسلمين في الزمن العباسي بالقراءة، فلقد بلغ شغفه بالمعرفة، وفي كل حقولها أن شعرت أمه بالقلق عليه من إنفاقه كل ساعات يومه في القراءة، وحاولت بشتى السبل أن تدفعه إلى اهتمامات أخرى إلى جانب القراءة والمطالعة دون جدوى، فشعرت باليأس من إمكانية "إصلاح" حاله فتركته وشأنه!، وبدأ الجاحظ رحلته مع القراءة منذ طفولته، وظل هذا الميل ملازما لـه طيلة عمره، حتى إنه فيما اشتهِر عنه لم يكن يقنع أو يكتفي بقراءة الكتاب والكتابين في اليوم الواحد، بل كان يتوجه إلى دكاكين الوراقين ويبيت فيها للقراءة والنظر. ويورد ياقوت الحموي قولا لأبي هفَّان ـ وهو من معاصريه ـ يدل على مدى نهمِ الجاحظ بالكتب، يقول فيه: "لم أر قطُّ ولا سمعت من أحب الكتب والعلوم أكثر من الجاحظ، فإنه لم يقع بيده كتاب قطُّ إلا استوفى قراءته كائنا ما كان ولا عَجَبَ إذ ذاك في أن يفرد الصفحات الطِّوال مرات عدة في كتبه، للحديث عن فوائد الكتب وفضائلها ومحاسنها. والحق أنه كان أشبه بآلة مصوِرة، فليس هناك شيء يقرؤه إلا ويرتسم في ذهنه، ويظل في ذاكرته آمادا متطاولة.‏
فإن كان الكتاب مصدرا للمعرفة، فليس مصدرها الوحيد، ولقد انتبه الجاحظ لهذه الحقيقة، فبدأ يطرق أبواب مجالس العلماء ويتتلمذ على أيديهم، ولأنه لم يكن مجرد ذاكرة تحشر بالمعلومات، فما كان يتلقى ما يلقونه على مسامعه في رضا وسلام، بل كان يفكر فيما يقولون، يحاور ويناقش، ويتفق ويختلف، ويضيف، وتلك ميزة من تتفجر شهوة المعرفة لديه في سن مبكرة، فيبدأ بطرح الأسئلة وهو طفل ربما دون الرابعة، ومن الخطيئة زجره مهما كان ما يطرح مثيرا للحرج من وجهة نظر أبويه، فليترك ليسأل، بل ينبغي تحفيزه على طرح الأسئلة. إن طرح الأسئلة في هذه الفترة من عمر الإنسان هي انبثاق مشاعر الغموض والدهشة التي تكتنف دواخله تجاه العالم الخارجي، لذا ينبغي مساعدته من قبل الأبوين، ثم من قبل المدرسة، ليس كما يجري الآن من خلال مده بالإجابات الجاهزة وتلقينه لها، بل من خلال تحفيزه على الوصول إلى إجابات بنفسه عبر الحوارات مع مدرسيه ، وتوجيهه إلى المكتبات لينقب في الكتب عن مخارج لما يشغله من أسئلة ، ولأن شهوة المعرفة بذلك تأججت ، وهي شهوة لا تتأجج بالتلقين كما يجري الآن في مدارسنا ، بل بالتفكير والتحليل والاستنباط ، فطفل هذا حاله لن يكتفي بما يحصل عليه من إجابات ، بل الإجابات ستتفجر أسئلة أخرى ليبدأ دورة جديدة في البحث عن إجابات لها ، ولا يكتفي بالقراءة ، وإنما أيضا سيطرق أبواب العلماء والمفكرين ليجد لديهم علاجا لأرقه المعرفي ، مثلما فعل الجاحظ.
لقد تكوَّنَتْ لدى الجاحظ ثقافةٌ هائلةٌ ومعارفُ طائلةٌ عن طريق التحاقه بحلقات العلم المسجديَّة التي كانت تجتمع لمناقشة عددٍ كبيرٍ وواسعٍ من الأسئلة، وبمتابعة محاضرات أكثر الرِّجال علماً في تلك الأيَّام، في فقه اللغة وفقه النَّحو والشِّعر، وسرعان ما حصَّل الأستاذيَّة الحقيقيَّة في اللغة العربيَّة بوصفها ثقافةً تقليديَّة، وقد مَكنَّهُ ذكاؤُه الحادُّ من ولوج حلقات المعتزلة حيث المناقشات الأكثر بريقاً، والمهتمَّة بالمشكلات الَّتي تواجه المسلمين، وبالوعي الإسلامي في ذلك الوقت، لكن الجاحظ تلاشى في زمننا ، بينما موجود بكثرة في المجتمعات الغربية ، والتقارير الراصدة لأحوالنا الثقافية صادمة ، فالتقرير العربي للتنمية البشرية يؤكد أن مخارج صناعة الثقافة في العالم العربي كتاب لكل 12 ألف مواطن ، بينما يصل المعدل في دولة مثل بريطانيا إلى كتاب لكل 500، وتنتهي دراسة للمركز العربي للتنمية‏ إلى أن متوسط اطلاع المواطن العربي على الكتب لا يزيد على 10 دقائق سنويا في مقابل 12 ألف دقيقة للمواطن البريطاني .!
ومن السخف القول إن ثمة وسائل أخرى للمعرفة جذبت اهتمام القارئ العربي، كالانترنت، لكن الدراسات أيضا تؤكد أن غالبية زوار الانترنت من العرب هدفهم ليس الثقافة الجادة ، بل التسلية والترفيه !
وثمة سؤال : لماذا لم ينصرف الأوروبيون والأميركيون عن الكتاب تحت وطأة تأثير الانترنت ، وهم مخترعوه !الغرب تقدم لأنه يقرأ ، ولن يتغير حالنا إلا إذا قرأنا ، وأصبح كل منا "أبو عثمان عمرو بن محبوب الكناني" الشهير بالجاحظ ! وليكن هذا مشروع النظام التعليمي العربي، إعادة تخليق الجاحظ !

محمد القصبي