د. أحمد مصطفى أحمد:
طغت أول جولة خارجية للرئيس الأميركي جو بايدن على اهتمام كثيرين ممن يعلقون ويحللون ويكتبون عن الشؤون الدولية عموما في أنحاء العالم. بايدن بدأ جولته ببريطانيا ليقوم بزيارة رسمية للدولة الأقرب إليها عبر الأطلسي، وأيضا ليشرك في قمة مجموعة السبع التي تضم الدول الغربية الغنية ومعها اليابان. ثم انتقل إلى بروكسل للمشاركة في قمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) ثم إلى جنيف للقمة الروسية الأميركية. تأتي الجولة متسقة مع تعهد بايدن، حتى قبل انتخابه رئيسا العام الماضي، بأنه سيعمل على "إعادة أميركا إلى العالم". ذلك على اعتبار أن سلفه دونالد ترامب خرب علاقات أميركا مع العالم، خصوصا حلفاء واشنطن. وتبدو جولة بايدن الخارجية الأولى بالفعل عودة إلى "النظام القديم" للعلاقات الدولية وموقع الولايات المتحدة فيها.
لكن تلك العودة قد لا تعني بالضرورة دورا أميركيا أكبر في شؤون العالم كما يطمح بايدن، بل على العكس قد يكون لعودتها تعزيز لذلك النظام القديم السابق على فترة رئاسة ترامب. والحقيقة أن سياسات ترامب هزَّت أساسيات ذلك النظام القديم، وحتى لو لم يكن ترامب يقصد. فانسحاب أميركا من المنظمات الدولية وإلغاء اتفاقياتها التجارية مع شركائها، والتوسع في فرض العقوبات على الأعداء والحلفاء على السواء، ضربت مفاصل ذلك النظام. ربما كانت سياسات ترامب مدفوعة بنظرة ضيقة تشوبها شخصية الرئيس القادم من خارج عالم السياسة والذي يتصرف مثل المشاهير ولا يهمه سوى نجوميته، لكن في النهاية كانت نتائجها "تغيرية" بالفعل، سواء اتفقت مع هذا التغيير أم لا.
النتائج الفعلية للعودة الأميركية لا تزيد عن إعادة الزمن للوراء أكثر من أربع سنوات. صحيح أن أوروبا الحليفة افتقدت الريادة الأميركية في عهد ترامب، الذي وضع "القارة العجوز" خارج المركز العالمي تقريبا. وصحيح أن بريطانيا بحاجة للولايات المتحدة، خصوصا اقتصاديا وتجاريا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي. كما أن أعضاء الناتو في التحالف الغربي الأوسع يتوقون لوقف منحى التدهور الناجم عن سياسة ترامب وضغطه على الأعضاء الآخرين ليسهموا في ميزانية الحلف العسكري وعدم تحميل الولايات المتحدة القدر الأكبر من الفاتورة. ولعل جولة بايدن طمأنت هؤلاء، لكن ليس أكثر من الطمأنة. فكل ما يسعى إليه بايدن هو العودة إلى مؤسسات النظام القديم، لكن التطلع لتعزيز دور القيادة يتطلب أفعالا لا يتوقع أن تكون إدارة بايدن قادرة عليها. فهي إدارة تميل إلى عدم المغامرة والتصرف في إطار البيروقراطية المتاحة وفي ذلك أيضا صبغة الرئيس المخضرم في السياسة والذي يبدو كأنه ترقى في البيروقراطية حتى وصل إلى البيت الأبيض.
حتى فكرة تجميع تحالف غربي لمواجهة الصين وروسيا ليست الوسيلة المناسبة لدور ريادي أميركي في قيادة التحالف الغربي. فإدارة ترامب كانت تفعل الأمر نفسه، ربما فقط بدون ترتيب أو اتفاق مع الحلفاء ـ خصوصا في أوروبا ـ كما فعل في الانسحاب من الاتفاق النووي الإيراني. ولا ينتظر من بايدن، المتأني والذي يراجع القواعد والقوانين قبل أي خطوة و"يعمل ضمن اللوائح" إذا جاز التعبير، أن يستعيد قيادة القوة العظمى للعالم بالفعل. فهناك استراتيجية أميركية منذ الفترة الرئاسية الثانية للرئيس جوروج بوش الابن عمادها هو "فك الارتباط" مع العالم ـ ليس بمعنى التخلي عن دور القوة العظمى الوحيدة، ولكن بأن تعهد لوكلاء بحماية مصالحها دون تدخل فعال ونشط من جانبها. كل ما حدث في عهد ترامب هو أن تلك الاستراتيجية كانت تنفذ لكن بفعالية وليس عبر مؤسسات البيروقراطية. وفي الأغلب كل ما سيفعله بايدن هو العودة للمؤسسات، إقليمية ودولية من مجموعة السبع ومجموعة العشرين إلى الناتو والأمم المتحدة ببيروقراطيتها الهامدة. ومن الشطط تصور أن بايدن يريد "عودة الارتباط" الأميركي بالشكل السابق على حروب أفغانستان والعراق وغيرها. حتى في التصدي للصين اقتصاديا، وفكرة مشروع اقتصادي عالمي مقابل لمشروع "الحزام الطريق" الصيني لاستعادة مركز الغرب اقتصاديا في العالم ستغرق على الأغلب في المفاوضات والمناقشات والمؤسسات... إلى آخر كل ما ينتهي بـ"ات".
ما يهمنا نحن في منطقتنا هو أن نفكر ونخطط ونتصرف على أساس أن فورة "الدور الأميركي" في عهد ترامب انتهت. وأن نتخلص من العقدة القديمة بأن أميركا هي النظام العالمي، وأن منطقتنا مركز اهتمام السياسة الأميركية. صحيح أن الدور الأميركي يظل الطاغي، ولا بديل عنه في المدى المنظور، لكن مساحة الحرية الوطنية والإقليمية للاعبين في مختلف أنحاء العالم تزيد. وإذا كانت فترة رئاسة ترامب بصخبها أوهمت البعض أن ذلك ليس صحيحا، فإدارة بايدن ستعيد الأمور إلى نصابها. بمعنى أنه لا نتوقع أن تفعل واشنطن الكثير فيما يتعلق بقضايانا الساخنة، فلا هي ستفرض سلاما عادلا في فلسطين، ولا ستوقف تدهور أوضاع العراق وسوريا وليبيا وغيرها، ولا ستضغط لإخراج اليمن من مسار الانهيار، ولا يعنيها مشكلة مصر والسودان مع إثيوبيا بشأن سد النيل الأزرق.
نعم، تبقى أميركا قوة عظمى وحيدة وموقفها مهم، لكن الركون إلى أنها "تفعل" سيكون مخيبا للآمال. ما علينا سوى أن "نفعل" نحن وبالتأكيد نحرص على ضمان موقف أميركي مؤيد أو مساند أو على الأقل "غير معترض".