لا شك وأن دراسة التاريخ قضية ذات أهمية كبرى، تحقق فوائد عدة للفرد والمجتمع، بل أن الإنسان لكي يعيش في حاجة ماسة إلى منظور تاريخي يصل حاضره بماضيه ومستقبله. ولكون التاريخ بؤرة العلوم بمختلف أصنافها، ومركز انطلاقها، احتاج الباحث فيه إلى اعتماد العلوم المساعدة له في فهم حركته وتبيّن مساراته. مما جعل مفهومه يمرّ بمراحل كبرى شأنه في ذلك شأن أي معرفة إنسانية تتطور وتتغير مع تطور حياة الإنسان. تبعا لذلك، تحولت الاهتمامات البحثية للمؤرخين بمرور الوقت، من التاريخ التقليدي الوضعي ذي الطابع الحدثي، نحو ''تاريخ جديد'' استقصائي إشكالي يعتمد منهجا تحليليا مقارنا يصف ويسجل ما مضى من وقائع وأحداث، يوضحها ويفسرها على أسس علمية صارمة قصد الوصول إلى استنتاجات تساعد على فهم الماضي والحاضر والتنبؤ بالمستقبل. نقلة إبستمولوجية تقرّ بأهمية العوامل التركيبية وتميّز بين مستويات ثلاثة للزمن التاريخي (من الطويل إلى المحدود: الجغرافي، والاجتماعي والفردي) والذي من سماته انتفاء الحدود بين التاريخ والعلوم الأخرى، مثل علم الإناسة وعلم الاجتماع وإبراز البُنى الاقتصادية والديموغرافية واللسانية والثقافية، وغيرها. تحوّل معها التاريخ إلى دراسة كل ما له علاقة بالإنسان، من ذلك الموسيقى التي شهد تاريخها تغيرات جذرية في المضامين والمناهج. ويشكّل تجديد البحث التاريخي العربي - ومن ضمنه الموسيقي - مرحلة ضرورية لا لتصفية الحساب مع الإرث الاستعماري الثقيل فحسب، بل، وللتمهيد أيضا، لمرحلة أكثر إنصافا وموضوعية في كتابة التاريخ القطري من الداخل. حتى صار من علامات الوعي لدى المؤرخ العربي المعاصر، المناداة بـ تحرير التاريخ بمختلف مجالاته، من النزعة الاستعمارية؛ إلى جانب نداء آخر لا يقل أهمية، ألا وهو التحرر من الأسطورة وتفادي خطر ''الخيال المفرط والنسبية المطلقة''. على المجتمع العربي أن يربّي أجيال مؤرخيه على استخدام العقلية العلمية في تناول قضاياه، فهي الكفيلة بتحريره من جهة، وخلق تصوّر تاريخي عربي جديد من جهة ثانية، قادر أن يستفيد منهجيا بذكاء ووعي، من تجربة المنظومة التاريخية الغربية، دون السقوط في تبعية النقل والاقتباس. فالأساليب الغربية، رغم أهميتها وإغراءاتها، تبقى مركزية بالأساس، مما يتطلب من الأمة العربية في مرحلتها الراهنة البحث الدائم عن عناصر القوة والمناعة في تاريخها العريق، وأن لا تتخلّى عن ذلك المسعى للتحريف والاختراق والقولبة بمختلف الوسائل وتحت كل الدعاوي البراقة من تحديث المجتمع إلى القضاء على منابع الإرهاب !؟
ومهما يكن، فإن تجديد الكتابة التاريخية في الوطن العربي تربويا وأكاديميا ورسميا يبقى ضرورة ملحة لتطوير الذهنية العربية وفتح آفاق حقيقية لتغيير الواقع العربي نحو الأفضل. وهو ما ينطبق تماما على تاريخ الموسيقى العربية الذي لم يعد موضوعه مقتصرا على البحث في الموسيقى كفن قائم بذاته، بل صار يقوم على تعدد الاختصاص وتضافره. كما أنّ تقدّم البحوث الموسيقية وتوسّع مجالات اهتماماتها، جعل علم الموسيقى يتكئ على مجموعة من الميادين المساندة، ويسفر بالتالي عن بروز عدد من الاختصاصات الدقيقة يتحتم الإلمام بها.
غير أن البحث في الموسيقى العربية يزداد مشقة بسبب وفرة الروايات التي تزخر بها المراجع القديمة وما نسج على منوالها، عدد منها يتضمن تعميمات وافتراضات يعود معظمها، إلى دوافع عقائدية وأخرى شعوبية، قبل أن يتم تبنّيها عن جهل، أو استغلالها عمدا، لتبرير تأكيدات وأحكام مسبقة تخدم أيديولوجيات وسياسات ماكيافيلية مقيتة الغاية فيها تبرر الوسيلة. مؤرخون وباحثون، عربا ومستشرقين، سلموا بها دون أن يحاولوا مناقشتها أو تصويب ما احتوت عليه من أخطاء ونواقص أو حتى الإشارة إلى ما جاء فيها أو بينها من تناقضات. مما خلف الكثير من المغالطات والاستنتاجات الخاطئة، صارت رغم تعسفها وعدم صحتها، كأنها بديهيات غير قابلة للنقاش على مستويي التاريخ وعلم الموسيقى؛ وهي كثيرة لسوء الحظ.
وهو ما يؤكد يقيننا، بأن تاريخ الموسيقى العربية ـ كما هو الشأن بالنسبة لمباحث عربية أخرى- "في حاجة ماسة إلى الاكتشاف ثانية"، والعمل على تخليصه من تقاليد راسخة جذورها ليست معرفية فحسب، بل وكذلك إبستيمولوجية، أخلاقية وسياسية... تتنافى مع القواعد الدنيا للبحث العلمي، كما أنها تتعارض مع البعد الكوني للحضارة العربية الإسلامية. وبالتالي، صار مطلوبا إعادة النظر في هذا التاريخ والتعامل مع ما جاء فيه على أساس تحليلي نقدي بناء، سواء على المستوى الفني أو على المستوى الفكري والحضاري. حيث أن واقع الموسيقي العربية وحقيقتها لا يمكن أن يبرزا ويتجليا إلا في إطار شامل بعيدا عن المفاهيم الضيقة والقناعات المسبقة المطبوعة بآفة التعصب والتحيّز المشار إليها، والتي تمثل في اعتقادنا، السبب الرئيس لانزلاق عدد من المؤرخين في متاهات الخلط والالتباس. ومن المؤسف حقا، أنها لا تزال تربك تاريخ الموسيقى، بل وتاريخ العروبة عامة، وتحيد المهتم بالبحث فيهما عن الطريق السليم.
إن مظاهر أزمة الفكر الموسيقي العربي والكتابة التاريخية بخاصة، هي بحجم الارتباك الذي تعانيه البحوث التاريخية والعلوم الموسيقية، وكيفية التعاطي معها في بلداننا العربية. وذلك بالرغم من كون الموسيقى لا تختلف عن الميادين الأخرى في تاريخ نشأتها وتطورها، مرّت مثلها بمراحل انتهت بها في خاتمة المطاف إلى مادة دراسية جامعية دخلت برامج الكثير من حقول المعرفة. وبالرغم من تجدد مشاكل الوعي الموسيقي العربي وتراكم علامات الاستفهام حوله، تلوح اليوم في معظم الأقطار العربية، بداية نشاط واسع واندفاع قوي في مجال البحث الموسيقي والتاريخي المختص، في مسعى جاد لتحديث أدواته وتوسيع اهتماماته، وذلك من خلال مواكبة التحولات الفكرية والمنهجية التي برزت مع التفسير الجديد لمفهوم التاريخ الموسيقي وآليات البحث فيه. مع ضرورة التمسك بالخصوصية الفنية والحضرية للواقع العربي. مع الانفتاح على جميع مكونات تراثنا الموسيقي الروحي والدنيوي، بعيدا عن عقلية الإلغاء، فنيا كان أم عرقيا، عقائديا أو اجتماعيا، وإقحام الأبعاد الاجتماعية والفكرية والسياسية وحقول المعرفة المختلفة وتوضيح الصلة الكائنة بينها وبين الظاهرة الموسيقية.
وفي الإطار ذاته أن هناك اعتبارات متداخلة، معرفية - منهجية وأخرى إيديولوجية - سياسية، وغيرها، يتعيّن على المهتم بتاريخ الموسيقى العربية التنبّه إليها، والتحرّي من مضامينها وأبعادها في خضمّ حل مشكلات التخصص والمنهج. وهذا ما تحاول مداخلتنا مناقشته من خلال نماذج معيّنة وصولا إلى تقديم مجموعة استنتاجات وملاحظات ومقترحات، نصوغها في شكل حلول ممكنة لإرساء ''توجه جديد يرفع رهان التجديد الفكري والمنهجي لوضع خطة متكاملة لمشروع كتابة تاريخ الموسيقى العربية''، مع الأخذ في الاعتبار مختلف روافدها التاريخية والفنية.

د. محمود قطاط