ليس يسيرا قبول كلمة وداع بعد كل الوداع الذي قلناه وعشناه، سواء في الوطن او المغتربات. حتى باتت الكلمة أقسى من الحجر في ضربة الرأس أو أصعب من الفأس. ولكن ما العمل أمام الأقدار التي تأتي بقدميها .. تجرجرها وتجر من تريد معها ولها؟!.. هكذا اذن تجري الامور، وهذه هي سنة الحياة تنتهي عند هذا الحد، على كل ابن انثى وإن طالت سلامته.. وتتبع بعدها كلمة الوداع لتعمق في الألم وتزيد في الوداع ذاته. لم تعد الكلمة حاملة لهمها بقدر ما تعنيه في رتابة الموقف او انصباب الدمع لحاله في تعبيرات الاحزان والمصائب.
ودعنا احبة كثرا، يكاد ان نقول مرارا كثيرة. نحزن ونبكي او نتألم وتأخذنا الايام حسب مجرياتها ومشاغلها فيمتدح النسيان او تعب الذاكرة في الكثير من الاحيان. لا تغني الكلمات عن الخسارات او الفقدان ولا تصيب جراحاتها.
شاكر السماوي (1936- 25/11/2014) شاعر وأديب، وناشط وكاتب سياسي، ابدع في نصوصه وعاش زمنه، مهاجرا ومغتربا، داخل الوطن وخارجه، له نص يسأل فيه الشاعر محمد مهدي الجواهري عند عودته من براغ الى الوطن في السبعينات عن موقفه من الغريب في داره. وظلت عيونه ترنو الى الوطن وهو خارجه، في مغتربات عدة، عربية وأجنبية، ليختمها في ارض غريبة، لكنه ارتضاها مستقرا وإقامة ابدية، في الحياة والممات. هكذا انتهت السنوات الطويلة لأبي طلعت. بعد ان قص حكاية جرحه، اول مجموعة شعرية شعبية له، وسجل رسائل من باجر(الغد)، الى من يرى بعد ذلك ما توصل له السماوي وأبقاه لابنه طلعت وأخوته ولمن تعرف عليه وصادقه، اتفق معه او اختلف في المواقف السياسية والإبداعية. ولكنه سار معه في نشيد الناس او في تقاسيم، العشق والموت وبنادم. (عناوين مجموعات شعرية صدرت له).
تعارفنا في بغداد مطلع السبعينات عند هجرته اليها من الديوانية التي ولد في مدينة قريبة لها وتابعة لها اداريا وعاش فيها سنواته الاولى ومشاريعه وأحلامه وخيباته، في شارع ابي نواس ومقاهيه المنتشرة على شاطئ دجلة بين جسر الجمهورية وحتى المعلق. كانت المساءات فيها مشهدا وشاهدا لصحوة ثقافية عراقية وانطلاقة لصبوات حالمة وواعدة. واستمررنا في المهاجر ايضا، والتقينا وتوزعتنا المنافي، حتى البلد الاثير، الاخير، السويد. انتج ابداعا متميزا وطليعيا في الشعر الشعبي وعُد من رواد التجديد فيه، الى جانب الشعراء، مظفر النواب وعريان السيد خلف وشقيقه عزيز وكاظم اسماعيل القاطع وكريم العراقي وآخرين، ظلت نصوصهم شاهدة عليهم. كما ابدع في المسرح وأنتج الكثير الذي عرفته المسارح. وكان السماوي راضيا ومتمردا على ذاته في الوقت عينه، يرنو الى جديد حقيقي وتغيير فعلي على مختلف المستويات. لم يهادن حتى نفسه. لم يرتح لما يراه في مسارات ومآلات ما حدث في الوطن او المغتربات. كان دائم الهم والقلق ولكنه قادر على الصبر وتحمل البلوى. همه الكبير الوطن والشعب وحزنه ان من عوّل عليه ان ينهض بأحلامه لم يكن بمستواها. هَجر ولم يترك العمل السياسي التنظيمي. جرّب ومارس واكتوى بعواقبه، سجونا ومشقة ومكابدات.. ابتعد واقترب وظلت نجمته في سماء العراق والعرب ورؤيته في فضاءات المستقبل. حين تتذكره تنهال عليك صور غضبه ومعاناته وحسه الشعبي وحدسه السياسي ونصاعة فكره التغييري والصادم للواقع الراكد.
احترم مكوثه على ارض السويد، في مدينة غوتنبرغ ( يوتوبوري) ونال منه ما لم ينله في وطنه. كرمه اتحاد الادباء والمسرحيين والإعلاميين السويديون. منحه اتحاد الادباء تفرغا للإبداع الثقافي ووفر له اتحاد المسرحيين فرص اللقاء مع مبدعين آخرين في عواصم اخرى وإمكانات للتواصل والقراءة والتعبير عن مكنوناته، نصوصا ولقاءات صحفية وندوات وأعمالا مسرحية. وظل وفيا لها وله. وهو الوفي لأصدقائه ومن وجد فيه ما يريحه في همومه او يشاطره اياها في زحمة الانكسارات والانشطارات والانهيارات في القيم والسلوك والروابط الانسانية. كتب في اهدائه لكتابه الفكري: اللا ديمقراطية عربيا، الكلمات التالية: "ايها الواهب، الحي في ذاكرة كل شريف، رفيقي الراحل حسين سلطان، لذكراك الرافلة بالصدق والعطاء أهدي هذه الباقة من الصبوات المطرزة/ بالجراح وتلاوين الحلم الذي غادرنا/ ورفضنا ان نغادره./ انها شارة عرفان ووفاء في زمن يلتف على الروح كالأنشوطة اذ استشرى فيه/ العقوق وصدأت الذمم."
قدمته مجلة التصدي في مقابلة اجرتها معه في 2 نوفمبر 1986 ونشرتها في عددها السابع من سنتها الاولى، وأعاد هو نشرها في كتابه المذكور سابقا، أي انه موافق عليها، اذ ذكرت: "شاكر السماوي اديب عراقي، شاعر شعبي ومسرحي، يعيش ويمارس نشاطاته الادبية خارج العراق بسبب مطاردة السلطات الفاشية له. فقد قضى زمنا في الجزائر، ويقيم الان بدمشق. يساهم في النشاط المسرحي، حيث قدمت له منذ فترة على مسرح القباني مسرحيته "سفرة بلا سفر" اضافة الى كتابة النقد المسرحي. يكتب المقالات عن الشعر والثقافة. وعدا عن اربع مجموعات شعرية شعبية (...) له خمس مسرحيات قدمت في العراق بين عامي 1958- 1979. وعلى مر هذا التاريخ الثقافي كانت له نشاطات متقدمة وثورية رسخت لديه قناعات انسانية وخبرات سياسية. نستطيع تلمس مفاصلها الحادة في هذا اللقاء ....". هذا التقديم الذي قبله السماوي كان ملخصا عنه للحقبة الزمنية التي انتهت عند النشر، اما ما بعدها فله قصص اخرى. وله معناه في حياته وإبداعه، سيما وهو في منفى بعيد وفي بلاد غريبة، جمعت له غربته واغترابه ولكنها اعطته من الصبوات ما توقف عنده وعندها بتألم وتأمل وانتظار.
اختار ان يدفن في منفاه في السويد بعيدا عن البدايات والذكريات، وعن الثرى الذي تربى عليه وانسكبت اولى العبرات فيه وعليه.. ظلت حسرته كامنة، وانتهت قصته.. لكن المبدعين دائما لا يموتون ولا ينتهون.. تظل صورهم وإبداعاتهم شهادات للتاريخ وتبقى الذكرى لهم متجددة مع مرور السنوات والقراءات لنصوصهم وما تركوه من آثار لا تمل ولا تنسى.

كاظم الموسوي