يشكّل موقع عُمان الاستراتيجي على الطريق التجاري وطرق المواصلات القديمة والحديثة جانباً مهماً في اتصال عُمان بالعالم الخارجي، إذ عرف الإنسان العُماني كيف يعبر البحار والمحيطات مستخدماً الشراع. وعند الحديث عن اسهامات عُمان الخارجية فإن منطقة شرقي أفريقيا تتبادر إلى الذهن بصورة لافتة؛ ذلك لما قام به العُمانيون من تقدم حضاري هائل يُشار إليه بالبنان. كما أنه من المغالطة أن نقول أن الانقسام السياسي بين عُمان وزنجبار أثر على الوجود الفكري والثقافي في شرقي أفريقيا بل على العكس استمر هذا الدور بشكلٍ كبير في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، فكما هو معلوم أن الصلات مع شرقي أفريقيا عميقة وترجع إلى ما قبل الإسلام، يقول الدكتور بابكر قدرماري: "الوجود العربي قديمٌ، وعميق الجذور، وله أثرٌ كبير على لغات أفريقيا وثقافاتها، وهناك من الأدلة الكثير مما يدلُ على قِدم وأصالة اللغة العربية في أفريقيا فقد عُرفت اللغة العربية في بعض أجزاء أفريقيا الشمالية والشرقية قبل الإسلام بسبب المجاورة والقوافل التجارية التي كانت تنطلقُ في شمال الجزيرة العربية إلى شمال وغرب أفريقيا قبل حفر قناة السويس. كما كان للغة العربية تواجد في السواحل الشرقية لأفريقيا قبل الإسلام بسبب الملاحة التي كان يمارسها العرب في المحيط الهندي وخليج عدن منتشرين على سواحل شرق أفريقيا". وبدخول الإسلام زادت هذه الصلات بهجرة العديد من القبائل العُمانية إلى الشرق الأفريقي مثل هجرة الجلندانيين والحرث والنباهنة، وساهم التواجد العُماني في تغيير جوانب الحياة المختلفة. ومن بين الأسر التي أثرت في ذلك الجزء الأفريقي أسرة المزارعة أو المزاريع.
من هم المزاريـع؟
هم آل مزروع ومتعارف على أنه جمع مزروع مزاريع، يقول الأستاذ عبدالعزيز بن مزروع الأزهري: " أن مزروع تجمع على مزارعة ومزاريع"، وقال: ".. فالمزاريع تستعمل عادة في بلاد العرب، والمزارعة خارجها، وكلاهما صواب". ويذكر الشيخ سالم بن حمود السيابي: " .. أنهم قوم متفرقون، يوجد بعضهم بأطراف الشمال من عُمان من أرض الشميلية من أعمال شناص، ويوجد بعضهم بالرستاق، بالمحلة المعروفة ببرج المزارعة من علاية الرستاق، وبعضهم في سفالة سمائل". وينتسبون إلى زيد بن كهلان بن عدي الذي يرتفع إلى يعرب بن قحطان كما يذكر الأمين بن علي المزروعي. أما تسميتهم بالمزروعي فهناك رأيان:
الأول: نسبة إلى كثرة أموالهم (مزارعهم). أما الرأي الثاني فيذكره الاستاذ عبدالعزيز بن مزروع الأزهري وهو كثرة الذرّية، "والتشبيه بالزرع؛ لكثرته ونمائه".
أصبح المزاريع ولاة على مماسبة في عهد اليعاربة، وكان أول والٍ عليها محمد بن عبدالله المزروعي ثم عُين ناصر بن عبدالله المزروعي عام 1711م، بعد طرد البرتغاليين منها، إذ استجاب الإمام سيف بن سلطان اليعربي لطلب الأهالي هناك بطرد البرتغاليين . وفي عهد الإمام سلطان بن مرشد عين محمد بن عثمان المزروعي في عام 1738م، وخلفه أخوه علي بن عثمان في عهد الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي الذي أعلن عدم ولائه للإمام، لكن الأخير أجبره على ارتباطه بعُمان، وذلك أثر حملة كبيرة قادها الإمام على ممباسة. في عام 1824م طلب الوالي سليمان بن علي المزروعي الحماية البريطانية من قائد البارجة ليفن (Leven)، وتظاهرت حكومة بريطانيا آنذاك بعدم تأييدها هذه الحماية، لكنها تركت لبوارجها أمر الرسو بالمنطقة التي يرفع بها العلم، وقيل أن الحماية البريطانية أستمرت سنتين ونصف، فقد تم إنهاء الحماية في 25 يوليو 1826م في عهد الوالي سالم بن أحمد بن محمد المزروعي، قرر بعدها السيد سعيد بن سلطان القضاء على سلطة المزاريع، فخرج في قوة كبيرة من مسقط عام 1828م لكنه لم يفلح، واستمر الصراع إلى عام 1837م، حينما بسط السيد سعيد سيطرته على رأس كارديف في الشمال إلى رأس دلجادو في الجنوب، ومن ضمنها ممباسة.
ممباسة
تقع على ساحل كينيا، وهي من المراكز التجارية المهمة على ساحل الزنج، ومحطة لتوقف السفن التجارية، وتسمى "جنجويا" و هو اسم سواحلي قديم، وسميت باسم أمفيت، ومعناها حرب، وسميت كذلك منفسة، أما اسم ممباسا أو ممباسه فقد اختلف من اطلق عليها هذا الاسم، فقيل العُمانيون، وقيل البرتغاليون.
استقرت بها العديد من القبائل العُمانية، فقد استقر بها الجلندانيون منذ أواخر القرن الأول الهجري، وهناك حي لا يزال إلى اليوم يعرف باسم كلنديني وهو النطق السواحلي لجلنداني. كما استقر بها المناذرة والمزارعة، وما زال بعض أبناء تلك القبائل تعيش فيها حتى اليوم. قال عنها الإدريسي: " أن أهلها يحترفون استخراج الحديد، وصيد النمور". كما أنها تُعد من المدن السياحية الشهيرة في كينيا. من أشهر معالمها قلعة يسوع (ممباسة)، وقد بناها البرتغاليون في عام 1592م، كما تم إنشاء وكالة تجارية بهدف تنشيط التجارة في الساحل الأفريقي.
التجارة
كان اتصال عُمان بالشرق الأفريقي منذ القِدم بسبب المجاورة والتبادل التجاري، ونتيجة للنشاط الملاحي، وقد امتلكت ممباسة جوانب مهمة لإرساء هذه التجارة ومنها الميناء، كما لعب تجارها دور الوسيط بين الساحل والداخل، واشتهرت ممباسة بتصدير أجود أنواع الحديد، الذي أقبل عليه كثير من التجار العرب والعٌمانيين والهنود لصناعة السيوف، وكانت ممباسة مستودعاً كبيراً ومركزاً تجاريا ضخماُ، كما أنها تمتلك ثروة حيوانية كبيرة.
لقد ساهم الولاة المزارعة في إرساء التجارة وتنشيطها في ممباسة، فكان التجار ينقلون سلع الشرق كالثياب، والديباج، والخزف العراقي، والتمور، وماء الورد، والأحجار الكريمة، والعقود، والحرير الوارد من الصين، والزمرد الخ .. إلى شمال افريقيا، وينقلون من شرق أقريقيا العاج والذهب والفضة، والسكر، والسمسم، والعنبر، إلى شرق الهند والصين.
وقد اهتم المزاريع بالتجارة الداخلية عبر قوافل التجارة، فأصبحت التجارة نشطة في عهدهم، وأصبحت التجارة تمثل المصدر الرئيس لدخل ممباسة، وقد دخلت الإسلام نتيجة هذه التجارة العديد من المدن مثل الماجكندا، والكثير من نسائهم تزوجن من مسلمي ممباسة واعتنقن الإسلام.
البناء والتعمير
اهتم المزاريع ببناء وتنظيم المدن وتعميرها، ويظهر ذلك جلياً في الأبنية الحجرية وزخارف الأبواب والمشربيات، التي بنيت على الطراز العربي الإسلامي، ويظهر كذلك الفن الفارسي في نقوش وزخرفة الكثير من المباني في ممباسة، كما اهتموا ببناء المساجد التي تشكل دوراً مهما في حياة المسلم، فلم يقتصر دور المساجد في العبادة والصلاة فقط، بل كانت بمثابة مدارس تعليمية يتوافد عليها السكان من كل الأجناس، عرب وأفارقة وهنود وغيرهم، تلقى فيها الدروس باللغة العربية وتعاليم الدين الإسلامي على يد نخبة من المعلمين. كما أن المسجد أصبح داراً للسياسةِ، ومجلس شورى لأهل القرى والأرياف.
الأدب والشعر
هناك العديد من الشعراء في ممباسة، ومن بينهم بوانة مياكا بن حاج الغساني، وهو شاعر سواحلي، بلغ انتاجه الأدبي مبلغا كبيراً، وقد وصف بأنه " شاعر البلاط"؛ فقد وقف مدافعاً عنهم في الكثير من قصائده. ومن الشعراء أيضا الشيخ محيي الدين بن الشيخ بن عبدالله القحطاني صاحب كتاب " الإنكشاف"، وكان ولاؤه للمزاريع، ونظّم الكثير من القصائد في مدحهم، والإشادة بهم، فلما بلغه خبر تولية سالم بن أحمد المزروعي 1826م أرسل قصيدة يهنئه فيها، ويمدح المزاريع، يقول:
يا مرسلاً أبدي العجيب وأفهما *** خبرا بغير تكلـم يروي الظمـا
سر عاجــلاً حتى إلـى ممباســة *** فيها البدور مضيئةٌ تلك السما
فيها المشائخ من كهالنـة وهــم *** سادات كهلان وطيب المنتما
أُسدٌ كرامٌ ولد أحمد في الــورى *** كالبحرِ جوداً أو كغيثٍ قد هما
وكان الشعراء في ممباسة يغلب عليهم الحاسة التاريخية، كما ظهر في شعر القحطاني في تسجيل حصار ممباسة من قِبل السيد سعيد بن سلطان، وتسجيل الحوادث التاريخية سمة للشعر الوطني في ممباسة.
الملاحة البحرية
لقد عرف العُمانيون الملاحة منذ أقدم العصور، حينما كان النحاس يُنقل إلى بلا الرافدين، والكلمة السومرية "ماجان" التي تتكون من مقطعين ما ومعناها هيكل وجان ومعناها السفينة لهو دليل على اشتغال العُمانيين بصناعة السفن، وركوب البحر. أما المزاريع فعرفوا فنون الملاحة حسب ما تقتضيه من معارف مثل: معرفة الطرق البحرية، والآلات التي تساعدهم على الملاحة مثل البوصلة والإبرة المغناطيسية، بالإضافة إلى رسم الخرائط. ويمكن القول أن عُمان أصبحت سيدة المحيط الهندي في الملاحة والأساطيل البحرية.
ونخلص من ذلك أن المزاريع ساهموا في الحضارة الإنسانية في الشرق الأفريقي، بإسهاماتهم المتعددة في كافة المجالات والتي اختصرناه في هذا المقال، وإلا فإن الحديث يطول عن اسهامات العُمانيين بشكل عام والمزاريع بشكل خاص، حالهم حال بقية القبائل العُمانية المهاجرة إلى شرقي أفريقيا كالحرث والنباهنة وبنو الجلندى وغيرها من الأسر العُمانية قديماً وحديثا. وقد تحدث عن ذلك كثير من المستكشفين الأوروبيين الذين زاروا أفريقيا الشرقية والتي لا يسع المجال لذكرها.

المراجع:
- المؤتمر الدولي: الدور الغُماني في الشرق الأفريقي 11-13/ديسمبر 2012م، مجلدين، 2013م، جامعة السلطان قابوس.
- سعيد بن سالم النعماني، الهجرات العُمانية إلى شرق أفريقيا ما بين القرنين الأول والسابع الهجريين، النادي الثقافي، مسقط، الطبعة الأولى، 2012م.
- سعيد بن علي المغيري، جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار، تحقيق محمد علي الصليبي، وزارة التراث القومي والثقافة، مسقط، الطبعة الرابعة.
- عبدالله بن محمد الطاني، تاريخ عُمان السياسي، الطبعة الأولى، 2008م.
- فاطمة عبدالوهاب عبدالله، المزارعة وأثرهم السياسي والحضاري في ممباسة (1699-1947م) مركز جمعة الماجد، دبي، الطبعة الأولى، 2014م.

يونس بن جميل النعماني
[email protected]