" ضحكت لعينيَّ المصابيح التي تعلو رؤوس الليل كالتيجان، ورأيت أنوار المدينة بعدما طال المسير وكلت القدمان، وحسبت أن طاب القرار لمتعب في ظل تحنان وَرُكن أمان، فإذا المدينة كالضباب تبخرت ، وتكشّفتْ لي عن كذوب أماني، قدرٌ جرى لم يجر في الحسبان ، لا أنت ظالمة ولا أنا جاني " بقصيدة أنوار المدينة لإبراهيم ناجي ، نلج اليوم في أطروحة تشكيلية متجددة فأدب الشعر وثقافة التشكيل يشُقان نهر الإبداع منذ أزل ويرتعان معاً في بُستان الجمال، واليوم سنرتشف من يمِ التشكيل رشفة لمبدعةٍ من التشكيليات العُمانيات اللواتي صُغنَ لأنفسهن رؤية خاصة جمعت بين أصالة الواقع وأثره وحداثة الشكل وتقنياته فتجلت أعمالها بطابعها وأسلوبها المتفرد الذي دأبت على إثرائه وتطويره منذ بداية نشاطها في عالم التشكيل فطلت علينا من نوافذ مُدُنِها لتُدخِلَنا في حوار ممتد بين استقاء العناصر والأشكال من واقعها المحيط وما تبقى في ذاكرتها من مفردات متجانسة للأمكنة من ناحية وحرية التأليف والصياغة لتلك الأشكال وفق مفاهيم متعددة تتراوح ما بين الواقعية والتعبيرية والتجريدية من ناحية أخرى، وكل من تعايش مع تجربة هذه الفنانة يستشعر شغفها بالطابع المعماري للمدن كعنصر رئيس في لوحاتها وميلها إلى الضربات اللونية تارة وتذويب اللون في مساحات أشكالها تارة أخرى لتمنح فرشاتها درجة أسمى من حرية التعبير، لذلك نراها تفتش بين جناحي عالمها عن ومضة تُولّد الانبهار والحس التعبيري المتجدد في كل لقطة فنية تبعثها من رحم تجربتها الفنية، وقد سُقتُ لكم من بين عطائها الفني الكبير هذا العمل الذي يعكس لونها الفني ويحاكي جوهر أفكارها ففي (ذاكرة المدينة) نجد نعيمة تستجدي العناصر الشكلية المستوحاة من المدن والتجمعات الإنسانية التي تآلفت وامتزجت مع بعضها في عناق حميمي وحلت البساطة الشكلية المتناهية فيما بينها بإيقاع شجي مع تلك المفردات التي تَنُم عن خبرة متطورة عبر المراحل الماضية من تجربتها الفنية كما نلمس عن كثب كيف حققت البنائية التكوينية ولعبت على المساحات اللونية المتناغمة أفقياً ورأسياً لتصنع نسيجاً عضوياً مع العمارة الإسلامية للمدينة والسماء التي تنفتح عليها، كما نلاحظ مدى التمكن الرائع في خلق حلول أكثر خبرة لوحدة العمل الفني حيث جاء العمل أشبه ما يكون بالبناء السيمفوني الذي تنساب منه الألحان بأنغام لونية وتراكيب مختلفة تحقق معها ذروة المتعة الفنية في لحظة اللقاء الأولى بالعمل ويمكن أن نلاحظ أيضاً كيف وظفت المفردة النباتية مع الأشكال الهندسية للمباني وذوبتها داخل العمل الذي سيطر عليه الطابع الهندسي بحيث لم تؤثر على فكرة العمل أو بنائه بل أضافت إليه بُعداً فلسفياً آخر سنتطرق إليه بعد قليل، كما نجد أن الحلقات الدائرية في أعلى العمل التي قد ترمز إلى الشمس قد ساهمت هي الأخرى في إحكام العمل وجذبت المدينة وما فيها إليها بشكل حسّي. ولو نقلنا الحديث إلى الطرح الفلسفي واستنهضنا الطاقة التأملية في العمل فيمكنني أن أقول بأن مدينة نعيمة يُرى باطنها من ظاهرها فالأرواح الجميلة التي تسكُنُها قد شعت بأنوارها الزرقاء المشرقة والغافية في وداعتها وطُهرها ونثرت شيئاً منه بخفة على سماء الكون وكأنها تسعى إلى الظفر بالغيوم القاتمة من الكآبة التي أحاطت بالعالم بسبب ما انتشر في الأرض من شر ودمار أحدثته بعض النفوس المريضة التي لا ترجو الخير للإنسانية وكأنها تسعى إلى إزالتها من سماء عالمنا الذي ننشد فيه الخير والسلام، وللتأكيد على معناها أضافت نعيمة بعضاً من الورود التي تخترق مدينتها وتذهب بمعاني المحبة والود والسلام إلى كل من يسكن في مُدُنِ العالم الأخرى التي تُصبح وتُمسي على ألوان شتى من البؤس والعذاب فترحل إليها هذه الورود لتُصبرها وتعطيها شيئاً من الأمل الجميل، وحتى شمسها تأبى الكسوف وظهرت برغم هجوم الغيوم السوداء عليها لتعلن بأن قبس نورها سيظل وضاءً يُرسل معه بشرى الأمل في نفوس من أحب السعادة لنفسه ولمن حوله وللبشرية جمعاء.ختاماً هي دعوة صادقة مني لمن أحب المُدن أن يسبر أغوار تجربة هذه الفنانة القديرة على اتساع جغرافية إبداعها ويستمتع بسياحة بصرية تأملية بما تنثره في عالمنا التشكيلي من براعة في الأداء وتألق في الأفكار.

عبدالكريم الميمني
[email protected]