إذا ما تأملنا صفحات التأريخ نجدها سجلا حافلا بالكثير من الإنجازات العظيمة على مختلف مشارب الحياة وعبر عصور مختلفة وذلك من خلال التجارب التي يقوم بها الإنسان، وسواء أكانت هذه الإنجازات سياسية أو سلوكية أو اجتماعية أو ثقافية أو اقتصادية، وذلك لأن صانع هذه المفردات كلها بعد توفيق الله تعالى هو الإنسان الذي يخطئ ويصيب، والذي يجتهد ويكل عن الاجتهاد، وهذا كله نأخذه من خلال سنن التدافع بين البشر بعضهم البعض على هذا البسيطة الفانية، ولقد أدى العلماء والدعاة العمانيون دورا ملموسا في بناء المؤسسات الثقافية الدعوية في شرقي إفريقيا، واستمر هذا العطاء الفكري والأدبي في شرقي إفريقيا عبر العصور التاريخية المختلفة منذ القرن الأول للهجرة إلى وقتنا الحاضر، فظهرت مؤلفات عديدة في مختلف الفنون، وصاحب ذلك النتاج حركة علمية وثقافية وأدبية وعمرانية، وهو الذي يمكن أن نطلق عليه ثقافة العصر آنذاك وهو الإدراك والإلمام بمعارف شتى تغذي الجانب الفكري والوجداني.
بل يذكر المؤرخون بأن عصر الدولة البوسعيدية يعتبر هو العصر الذهبي للوجود العماني في شرقي إفريقيا، فقد شهدت فترة البوسعيد في شرقي إفريقيا مرحلة مهمة من مراحل انتشار الإسلام فيه، ففي عصرهم أشرق نور الإسلام لأول مرة في ربوع أوغندة وأعالي نهر الكونغو وفي رواندا وبروندي فضلا عن المناطق الداخلية كزنجبار والجزيرة الخضراء في تنزانيا الحالية (ابراهيم الزين صغيرون ، ص194 ) ، وازدهرت الحركة العلمية في عهد الدولة البوسعيدية في مدن زيلع وهرر وأوفات وبربرة ومقديشو وبراوة وكلوة وأصبحت مدنا ومراكز علمية مشهورة في أرجاء ساحل شرق إفريقيا يفد إليها طلاب العلم والمعرفة لينهلوا من علمائها الأجلاء ( سميحة ، 2000، ص136 ، بتصرف) .
وهناك الكثير من المؤسسات الثقافية الدعوية في العصر الحديث ، فلقد لعبت المؤسسات الثقافية الدعوية دورا حيويا في شرقي إفريقيا في دعوة الناس إلى الإسلام والمضي قدما إلى الطريق الصحيح الذي اختاره الله لعباده عندما قال : وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) سورة الأنعام الآية 153 . وهنا رؤية لعدد من المؤسسات الثقافية الدعوية تتحدد في أربعة مطالب وخاتمة وهي المطلب الأول : المساجد ، والمطلب الثاني : الكتاتيب والمدارس والمعاهد، والمطلب الثالث : المجالس ودور العلماء، والمطلب الرابع : الجمعيات الإصلاحية .
المساجد
لقد لعبت المساجد دورا إصلاحيا كبيرا في نشر الوعي الديني بجانب تثقيف الناس ونشر مبادىء الدين الإسلامي الحنيف، مع الاهتمام الكبير على تعلم اللغة العربية، ولم يكن دور المساجد مقتصرا على أداء الصلوات الخمس وبعض العبادات فحسب، بل لها دور تربوي وإصلاحي وتعليمي، كما هو شأن المساجد في كل بقعة من العالم الإسلامي .
وقد كان للعمانيين ولا يزال لهم دور كبير في تشييد وعمارة بيوت الله تعالى في الشرق الإفريقي، إدراكا منهم بأن المسجد له دور ورسالة لنهضة المجتمع وتثقيفه، ويجدر بالذكر أن عدد المساجد التي وجدت في زنجبار وبيمبا (الجزيرة الخضراء) والتي لا تزال قائمة إلى يومنا هذا ( 357 ) مسجدا، وقد كانت تلقى الدروس في أروقة تلك المساجد على يد نخبة من الرجال الأفذاذ الذين بلغوا أعلى المستويات العلمية والثقافية(ابراهيم الزين صغيرون ، ص195 ، ) .
ومن المساجد التي كان لها دور ريادي في تعليم العلم وبثه للناس مسجد بني رواحة، فرواده بجانب قراءتهم للقرآن الكريم كانوا يقرؤون كتب الأثر التي غالبا ما تكون كتبا في علم الفقه والعقيدة هذا للكبار، وأما صغار السن فكانوا يقرؤون كتاب تلقين الصبيان للإمام المجدد نور الدين عبدالله بن حميد السالمي وهذا الكتاب طبع في المطبعة السلطانية التي أنشأها السلطان برغش(مقابلة مع الشيخ عيسى بن سالم الرواحي في بيته في روي – رحمه الله - بتاريخ 24/ ربيع الأول / 1429هـ ، الموافق 1/4/2008م). ومن المساجد التي كان لها أيضا دور في الإصلاح مسجد السيد حمود بن أحمد البوسعيدي، فقد كان مدرسة يتعلم فيها الناس أمور دينهم وكان يلقي الدرس في هذا المسجد العلامة أبو إسحاق ابراهيم أطفيش، وكان طلبة العلم يتزاحمون على حلقته(مقابلة مع سعادة الشيخ أحمد بن سعود السيابي ، الأمين العام بمكتب الإفتاء بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية ، بمكتبه بتاريخ 28/ 6/ 2010) ، وقد تخرج من ذالكم المسجد فيمن تخرج من الطلاب العلامة الشيخ أحمد بن حمد الخليلي الذي يشغل منصب مفتي عام سلطنة عمان الآن(الجهضمي ، 2003م ، ص44 ، بتصرف .). ومن العلماء الذين كان لهم دور حضاري الشيخ قسور بن حمود بن هاشل الراشدي، حيث كان مفتيا في زنجبار والمناطق التابعة لزنجبار ، وكان يلقي درسه في مسجد عائشة بنت جمعة، ومن المواد التي كان يدرسها كتاب جوهر النظام في علمي الأديان والأحكام للعلامة الإمام السالمي – رحمه الله تعالى – وغيرها من كتب العقيدة (مقابلة مع سعادة الشيخ أحمد بن سعود السيابي – الأمين العام بمكتب الإفتاء – بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية ، بمكتبه في الخوير بتاريخ 28/ 6/ 2010. ) ، ومن هؤلاء العلماء أيضا الشيخ الداعية الأمين ابن علي المزروعي الذي قام ببناء مسجد بمنطقة ويته مع إقامة مدرسة دينية ملحقة بهذا المسجد، وكان الشيخ يلقي دروسه في مسجده الذي بناه(ابراهيم الزين صغيرون ، 1993، ص201 . ) كل هؤلاء الدعاة وغيرهم كان شأنهم غرس حب الاهتمام بالثقافة الإسلامية في قلوب روادهم ونبذ كل ما يخالف الشريعة الإسلامية بجانب الاهتمام بتربية النشء تربية إسلامية،والاهتمام بالجانب الأسري،والاهتمام بجانب المرأة فهي المجتمع كله، مع ترك كل ما يخالف الأصول الإسلامية التي دعا إليها المولى سبحانه، و أرشد إليها نبينا الكريم عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم .
كان المسجد ولا يزال يؤدي دوره في حث الناس على الطاعة وفي المضي قدما إلى كل ما يرضي الله سبحانه وتعالى، بجانب أن المساجد أدت دورا طيبا في نشر اللغة العربية بين أوساط الأفارقة، وغدت مدن الساحل الإفريقي تعج بتلك السمات الحضارية ذات الطابع العربي الإسلامي، وغدت المساجد والكتاتيب ومراكز المؤسسات في ظل السيادة العربية العمانية، وقد شكلت قواعد ممتازة لنشر اللغة العربية والإسلام بين السكان(أبو علية عبد الفتاح حسن ، 1999 ، ص250 ) ، فتغيرت أحوالهم التي كانوا عليها إلى أحوال أخرى انتقلوا إليها، فتلك الاحتفالات الشائنة الجاهلية التي تغضب الله تعالى، تغيرت إلى احتفالات تقربهم إلى الله تعالى زلفى، ومن بين هذه الاحتفالات ؛ الاحتفال بشهر رمضان المبارك فهو يشكل صورة عميقة لدى التأثير العماني في نفوس الناس، فهو يأخذ طابعا إسلاميا من حيث انتظار رؤية الهلال، بجانب أن المساجد تغص بالمصلين حيث تقام الحلقات الدراسية لتلاوة وشرح لآيات من القرآن الكريم ثم تؤدى صلاة التراويح، ومن الاحتفالات كذلك الاحتفال بالمولد النبوي على صاحبه أفضل الصلاة وأزكى التسليم تتخللها المدائح الشعرية والأناشيد الدينية التي تذكر سيرة المصطفى – صلى الله عليه وسلم – والهدف من ذلك غرس حب الرسول- صلى الله عليه وسلم - في القلوب والأخذ بالمبادئ القيمة التي أرشد إليها المصطفى – صلى الله عليه وسلم(السيدة سالمة، 2006 ، ص226 ، سميحة ، 2000، ص127،).
الكتاتيب والمدارس والمعاهد
لم يكن التعليم بشكله الحالي المنتظم معروفا في شرقي إفريقيا قبل مجيء العمانيين ،إلا مع زيادة الاتصال والاحتكاك بالعمانيين ، حيث اعتمد في بداية الأمر على انتشار الكتاتيب لتحفيظ القرآن الكريم ، ثم مرحلة دراسة العلوم العقلية والنقلية( سميحة ، 2000، ص135، بتصرف ) ، وقد كان يشرف على هذه الكتاتيب والمدارس متخصصون في علوم الشريعة الإسلامية ، حيث يتعلم الصغار الخط العربي ، وكان المعلمون يواجهون صعوبات في تعليم الصغار الذين يتحدثون اللغة السواحيلية ، ويبذلون جهودا كبيرة من أجل تحفيظهم القرآن الكريم كله عن ظهر قلب حتى يصل الصغار إلى مرحلة الختمة(مقابلة مع الشيخ زاهر بن خليفة بن زاهر العلوي ، الأمين العام لجمعية الاستقامة الخيرية الإسلامية العالمية). وبجانب الكتاتيب برز دور عماني كبير في تأسيس وبناء المدارس، من أجل نشر العلم والثقافة ومحو الأمية، وقد برز هذا الدور في أوساط فئة كبيرة من الناس الذين كانوا يقطنون سواحل إفريقيا الشرقية، ومن الجهود التي قام بها العمانيون إبان وجودهم هناك، ما قام به الشيخ سعيد بن علي المغيري في الجزيرة الخضراء (بيمبا) حيث إنه بنى مسجدا في بلدة ويته وألحق به مدرسة دينية، يدرس فيها ما يفيد الطالب في دنياه وأخراه، وقد أقام الشيخ المغيري تذكارا لجلالة السلطان سعيد بن سلطان، الذي أوجد شجرة القرنفل في زنجبار والجزيرة الخضراء، وهذا التذكار عبارة عن مدرسة تسمى المدرسة السعيدية، وقد اشترك في بناءها كل الطوائف الإسلامية وغير الإسلامية(المغيري ، جهينة الأخبار ، ، ص432)، وبرز في كلوة ومنباسة عدد كبير من العلماء منهم الشيخ سمبط ، والقاضي علي بن حميد قاضي قضاة كلوة وحسن الشيرازي من علماء الحديث بكلوة ( سميحة ، 2000، ص137) . ومن المدارس التي كان لها دور ريادي في نشر الإسلام في أوغندة والمناطق المجاورة تلك المدرسة التي أنشأها الشيخ الداعية أحمد بن إبراهيم العامري وهو من الرواد الأوائل الذين تركوا أثرا بعيدا ومهما في انتشار الإسلام في أوغندا مستخدما في ذلك الحكمة في دعوته ، ويعتبر وصول هذا التاجر الداعية قادما من زنجبار إلى بلاط الملك ( سنا ) ( Sunna) في مملكة أوغندا معلما بارزا ونقطة تحول في تاريخ المملكة إذ يعتبر هذا الحدث بداية لدخول الإسلام في أوغندا، وكانت هذه الزيارة هي الأولى للشيخ، حيث كانت في عام 1260هـ / 1843م(ابراهيم الزين صغيرون، ، 1993، بتصرف) .
كما أن هذا الشيخ أظهر شجاعة فائقة في بلاد الملك، كانت سببا في إسلام أهل أوغندا، وهذا لا يكون إلا عن حكمة ودراسة للبيئة التي وفد إليها هذا التاجر الداعية، فقد جرت العادة عندهم وفقا للطقوس التي يعتنقها أهل أوغندا آنذاك وعلى رأسهم " الكباكبا" الملك، بتقديم عدد من الرعايا الأبرياء كقرابين للآلهة ؛ وذلك بذبحهم وسفك دمائهم، وهذا من متطلبات وطقوس الديانة الوثنية الإفريقية ( لوباري Lubaare) التي كان يعتنقها أهل أوغندا، وعلى رأسهم الكباكبا الذي يمثل السلطة المادية والروحية في ذلك المجتمع، وفي إحدى المرات أصدر الملك الكباكبا أوامره في القيام بهذه المذبحة، وذلك تمشيا مع روح هذه الديانة الهمجية التي يدينون بها ، فما كان من الشيخ أحمد العامري إلا أن وقف متحديا الكباكبا بأسلوب حكيم، وسط دهشة الحاضرين، وقال مخاطبا ومعاتبا إياه : مولاي إن هؤلاء الرعايا الذين تسفك دماءهم كل يوم بغير حق إنما هم مخلوقات الله – سبحانه وتعالى – الذي خلقك وأنعم عليك بهذه المملكة. وكانت دهشة الحاضرين في البلاط الملكي أشد وأقوى عندما تميز الكباكبا بضبط النفس، وأجاب الشيخ أحمد بأن آلهته هي التي منحته هذه المملكة، فما كان من الشيخ أحمد إلا أن استمر يكرر ويصر على فكرة أن الله واحد أحد فرد صمد، إلى أن بدا الكباكبا يتسائل في حيرة عن الله، هذا الذي يتحدث عنه الشيخ أحمد والذي يعتبره الخالق للكون وما حوى والرازق للبشر، والذي له ما في السموات والأرض، ورويدا رويدا انفتح قلب وعقل الكباكبا وطلب من الشيخ أن يعلمه هذا الدين الذي لا مكان فيه للشرك وتقديس الأفراد مثل الكباكبا، فاستجاب الشيخ أحمد لرغبته، وأخذ يعلمه في صبر وأناة دين الله الحق، وركز بصفة خاصة على مسألة التوحيد والحياة الأخرى وموضوع الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة . (ابراهيم الزين صغيرون ، لمحات تاريخية عن انتشار الإسلام في أوغندا ، ص22) .
وهكذا ( بدأ الكباكبا يتعلم مبادئ الدين الإسلامي، وتشير المصادر بأن الشيخ أحمد استطاع أن يعلمه أربعة أجزاء من القرآن الكريم قبل وفاة الكباكبا في عام 1273هـ / 1856م، وبذلك انفتح الطريق على مصراعيه بعد هذه الخطوة المباركة، حيث مهد للإسلام أن ينتشر في أوغندا والمناطق المجاورة ) ( ابراهيم الزين صغيرون ، 1993 ، ص197،بتصرف ).
ومن المدارس التي شيدتها الحكومة البوسعيدية مدرسة بويته عاصمة الجزيرة الخضراء ( بيمبا )، وقد افتتحت رسميا في 19 من ذي الحجة من عام 1359 هـ الذي يوافق عام 1942 م، وقد تشرف بفتحها الشيخ سعيد بن علي المغيري، والذي ألقى خطبة في افتتاح المدرسة، وقد جاء في هذه الخطبة بعد حمد الله والصلاة والسلام على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، ما يلي ( باسم الحكومة وباسم مدير المعارف وباسم التلاميذ والمعلمين أفتتح في هذا اليوم هذه المدرسة الجليلة التي هي وحيدة من نوعها بهذه الجزيرة، والله سبحانه وتعالى ندعوا أن يبارك فيها للوطن وأبناءه فتخرج لنا من طلابها أمة راقية ترفع هذا الوطن وأبناءه وترشدهم بنور العلم إلى ما فيه خير الدارين ... آمين )( المغيري ، 1994 ، ص467 ).
إن هذه الكلمة التي ألقاها الشيخ المغيري خلال الافتتاح لتنم عن بوادر جديدة ومنهجية لسلك التعليم، فهي تدل على أن هناك تغييرا سيحصل في جانب التعليم، فالتعليم ليس مقصورا على العلوم الدينية واللغة العربية فقط، كما كانت تقوم عليه المدارس القديمة، بل تعدى ذلك إلى تعلم بعض العلوم مع العلوم الدينية واللغة العربية كالرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية والفلك وعلم النفس وغيرها من العلوم التي تعنى بالجانب المادي التي تفيد الإنسان في الحياة .
ومما يدل على اهتمام حكام الدولة البوسعيدية في شرقي إفريقيا بالتعليم، ومسايرة التطورات التي أحدثتها النهضة العلمية في العالم، ولأجل الاستفادة منها فقد عزم السيد ماجد بن سعيد بن سلطان على إرسال بعثة عربية دراسية تتكون من عشرين طالبا للدراسة في أوربا، لأجل أن يتعلموا الصناعات وسائر العلوم العصرية، ولكن الأجل عاجله قبل تحقيق ما كان ناويا بتحقيقه(المغيري ، 1994 ، ص308).
وكان اهتمام رجال الإصلاح والدعوة من العلماء والمفكرين بتأدية الرسالة التعليمية منطلقين من واجبهم الديني الملقى على عاتقهم في تبليغ الدعوة للناس وترك الاعتقادات الفاسدة التي كان عليها الناس في شرقي إفريقيا، فمن ذلك أن الشيخ الأمين المزروعي افتتح مدرستين واحدة في ممباسا والأخرى في قرية غوى من أعمال ممباسة، حيث أنفق عليهما من جيبه الخاص ومن تبرعات أهل الخير والصلاح (ابراهيم الزين صغيرون ، 1993، ص202).
ومن السادة البوسعيديين الذي شجعوا حركة التعليم في البلاد بل وأوقفوا لها بعض أموالهم ( السيد المحسن حمود بن أحمد البوسعيدي الذي بنى مسجدا بزنجبار وجعل له وقفا ينفق منه لطلبة العلم والمعلمين والقائمين فيه)( المرجع السابق ،1993 ، ص203 ) ، ما هذه المبادرة من السيد حمود إلا لأجل الرقي بالعلم وطلبته إلى مافيه الخير لهم ولمجتمعهم، فالطالب الذي يدرك حقيقة العلم وحقيقة ما يدور حوله قادرا لأن ينهض بالناس إلى جادة الحق والصواب، فالعلم زين لأهله، وهو سعادة للناس .
وأما السيد علي بن حمود البوسعيدي فقد كان دارسا للغة الانجليزية والعلوم العصرية في لندن، ولذا أحب أن يكون الناس على حضارة ورقي في التعليم، فلذا أنشأ مدرسة لتعليم العلوم العصرية في زنجبار، وأخذ ينفق عليها من جيبه الخاص(المغيري ، 1994 ، ص422. ).
وفي عهد السيد خليفة بن حارب تم إنشاء مدرسة للبنات، ولكن وللأسف الشديد، انقلبت أحوال النساء في المدرسة عن النشأة العربية، مما أدى بهن إلى تقليد النساء الأوربيات في طبائعهن، طالبات للتحرر من ربقة الزي الإسلامي والتعاليم الإسلامية(المصدر السابق، 1994 ، ص437 ، بتصرف .) ، ولعل هذا الفشل جاء بسبب الإعلام الغربي الذي كان يدعوا إلى تحرير المرأة، وإلى أنها مهضومة الحقوق .
وتشجيعا على دراسة العلوم الدينية فقد افتتح معهدا إسلاميا وكان رئيس المعهد الشيخ محمد محمد الدهان من الأزهر الشريف، وكان يدرس فيه مع الشيخ الدهان الشيخ ( سعيد بن محمد الكندي) (فقيه من أهل نخل سافر إلى أفريقيا ، واشتغل بمهنة التدريس في المعهد الذي أنشأ في آخر عهد الدولة البوسعيدية في زنجبار . مقابلة مع الشيخ عيسى بن سالم الرواحي في بيته في روي ، ) وهو من ولاية نخل، فقد كان الشيخ يلقي درسه في المعهد الإسلامي تارة وفي المسجد الذي يصلي فيه تارة اخرى، ومن المواد التي كان يدرسها الشيخ كتاب تلقين الصبيان للإمام السالمي، وبهجة الأنوار وهي كذلك للإمام السالمي، وكتاب ملحة الإعراب للعلامة الحريري(مقابلة مع سعادة الشيخ أحمد بن سعود السيابي – الأمين العام بمكتب الإفتاء – بوزارة الأوقاف والشؤون الدينية ، بمكتبه في الخوير) فكان كل يوم ثلاثاء بعد صلاة العصر يجتمعون في مدرسة تحددها المجموعة يلتقون فيها بالناس لنشر الوعي الديني والثقافي(مقابلة مع الشيخ عيسى بن سالم الرواحي في بيته في روي) ، والشيخ ( سليمان بن محمد العلوي) الذي كان يشرح كتاب الآجرومية للصنهاجي( محسن الكندي ، 2009 ، ص54) الذي كان يدرس مادة الصرف، وأما عن المناهج التي تدرس فيه فهي القرآن الكريم مع التجويد والنحو والصرف والفقه والسيرة النبوية (مقابلة مع الشيخ عيسى بن سالم الرواحي في بيته في منطقة روي .) .
ولا ننسى في هذا الإطار الدور الريادي الذي قام به أشهر التجار العمانيين الشيخ حميد بن محمد المرجبي ومعاونه الشيخ محمد بن خلفان البرواني وما قاما به من تأسيس لإمارة عمانية إسلامية في منطقة أعالي الكونغو وجعلها مركزا لنشر الديانة الإسلامية( الريامي ، 2009 ، ص145 ، بتصرف ) .
ومن الدعاة العمانيين الذين ترددت أسماؤهم في وثائق الكنيسة في هذا الصدد وقاوموا نشاط الكنيسة الشيخ ( سليمان بن زاهر الجابري)، وهو من سكان أوغندا وكان من المقربين للسلطان برغش بن سعيد سلطان زنجبار(ابراهيم الزين صغيرون ، 1993 ، ص198 ) ، وقد تصدى بعزيمة وإصرار لما تقوم به الكنيسة من تنصير للناس فكان هذا التحدي والتصدي عاملا من عوامل النجاح لهذا العمل الصعب مع توفيق الله سبحانه لهم ، فارتفعت بذلك راية الإسلام خفاقة، وصدع صوت الحق يعلو أذانه مجلجلا مدويا، وتخشع لقرآنه قلوب المؤمنين في جزر الساحل والأراضي المتاخمة له، وإن العمانيين الداخلين لشرقي إفريقيا، وإن كان منهم من تدفعه للدخول روح المغامرة للكسب والغنى،إلا أن انتماءهم العقدي لدينهم الإسلامي هو الذي تحكم في حركتهم وتجوالهم(المعولي ، 2006 ، ص434 ، بتصرف ) .
إن هذه النهضة العلمية التي شهدها الشرق الإفريقي في العهد البوسعيدي، شجعت الطوائف الإسلامية والجماعات الأخرى التي تقيم في سلطنة زنجبار، والتي انخرطت في خدمة الدولة، وخاصة الجاليات السكانية من أهالي جزر القمر وحضرموت إلى الإسهام بدورهم في التجربة التعليمية، مما جعل من زنجبار مركز إشعاع وكعبة يتوجه إليها العلماء والدارسون من شتى الأقطار الإسلامية خاصة من أبناء المسلمين المنتشرين على الساحل الإفريقي ومن جزر القمر وأوغندا والبر الإفريقي(ابراهيم الزين صغيرون ، 1993، ص204).
وقد كان للعلماء القمريين دور كبير في خدمة السلطنة العمانية في الشرق الإفريقي في مجال التعليم كما يذكر ذلك صاحب جهينة الأخبار ، حيث أورده في كتابه جملة من المدرسين وأهل العلم القمريين الذين كانوا يقومون بمهمة الدعوة وتعليم الناس أمور دينهم ومن بين هؤلاء ؛ ( العلامة محمد بن عبدالله باوزير ، وكان غالبا يدرس تفسير القرآن العظيم بمسجد كيكوني بزنجبار .. ومنهم السيد عبد الفتاح بن أحمد بن جمل الليل ، وقد علم كثيرا من أبناء زنجبار القرآن بالتجويد )( المغيري ، 1994 ، ص528) ، بل يذكر الشيخ محمود عبدالرحمن بأن معظمي معلمي القرآن الكريم في الكتاتيب كانوا من القمريين(الشيخ ، محمود عبد الرحمن ، 2007،ص42.) ، وخاصة في عهد حكام زنجبار المتأخرين،من أمثال السيد علي بن حمود والسيد خليفة بن حارب، ويرى المغيري أن من أبرز العلماء الذين خدموا الدولة في ذلك الوقت الأستاذ المصلح العلامة الشيخ برهان بن محمد المكلا، وكان يلقب بسيبويه زمانه، وله مؤلفات في علم العربية، ومن مؤلفاته كتاب [ مرشد الفتيان إلى علم البيان ] وهو كتاب يتحدث في علم البلاغة والمعاني والبديع، ومن مؤلفاته أن له ديوان شعر في المدائح والمراثي والتهاني( المغيري ، 1994 ، ص533 ).
ومن الأعمال الخيرية التي أقامها العمانيون في شرقي إفريقيا إنشاؤهم لمعهد الاستقامة والذي تسمي بنفس اسم الجمعية، فقد جاء في دليل المعهد بأنه ( في عام 1415هـ الموافق 1995م تم افتتاح معهد الاستقامة في مسجد الاستقامة بالعاصمة زنجبار وكان آن ذاك يضم اثنين وثلاثين طالبا من مختلف مناطق تنزانيا )( جمعية الاستقامة التنزانية ، مخطوط غير مطبوع ، ص3 ) ، وقد ذكر الدليل بأن هناك أهدافا للمعهد تتمثل في
النهوض بمستوى التعليم الديني والعلوم الأخرى وذلك عن طريق تخريج كوادر مؤهلة ومدربة تتمتع بالكفاءة والوعي الديني بجانب العلوم الأخرى، المتفهمين لأصول دينهم، والمتفقهين فيه والمستوعبين لمعانيه والمطلعين على مصادر الثقافة الإسلامية المتنوعة والمتعددة والحاملين للرسالة الإسلاميـة ، وغرس العقيدة الإسلامية لدى الخريجين والقدرة على تحمل المشاق، وتزويد المجتمع الإفريقي بالدعاة الذين يغرسون العقيدة الإسلامية ومبادئ علم التوحيد، وقضايا الإيمان، ونشر الثقافة الإسلامية بين الناس ، وإعداد الداعية الذي يعمل على تنشئة الفرد المسلم العالم بدينه، الفاضل في أخلاقه ومعاملاته وسلوكه والمتسامح مع غيره والمحب لأخيه المسلم ، مع إعداد الخريج الحافظ للقرآن الكريم، المتفهم للفقه، العالم بالسنة المطهرة، والعقيدة السمحة( المرجع السابق ، ص3 ).

البقية من القراءة الثقافية في عدد الأسبوع المقبل
- ورقة عمل قدمت في "المؤتمر الدولي الثالث حول الحضارة والثقافة الاسلامية والدور العماني في دول البحيرات العظمى الأفريقية" الذي نظمته هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية خلال الفترة من 9 إلى 12 ديسمبر 2014 في جمهورية بوروندي.

جمعة بن خلفان البطراني