د. رجب بن علي العويسي:
يبدو أن عالم مشاهير التواصل الاجتماعي يعيش حالة من التراجع في ظل وعي الشعوب، والاعتماد الكلِّي على مؤشرات الإعجاب والتفاعلات وأعداد المتابعين لحسابات بعض المشاهير في منصَّات التواصل الاجتماعي ومروِّجي الإعلانات لن يقدم صورة حقيقة إيجابية في إمكانية استمرار هذه الوتيرة في المراحل المقبلة، ذلك أن فهم حقيقة ما يجري في هذه المنصَّات في ظل المواقف التي أفصحت عنها جائحة كورونا (كوفيد19) وغيرها من المواقف المرتبطة بأزمات الشعوب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية، وحالة الانسحاب التي أظهرها هؤلاء المشاهير والضآلة الفكرية والأخلاقية والإيمانية لدى أكثرهم، بدأت تظهر هذه المنصَّات على حقيقتها، وتكشف عن فشلها، وتثبت للجميع أن مشاهير التواصل الاجتماعي في ظل سطحية تفكيرهم ونظرتهم المادية البحتة، وحوارهم الذي لم يتعدَّ الحديث عن الترويج لمنتج مدفوع له، لن يمكنهم التعاطي مع ما يعيشه إنسان اليوم من تحديات، ويواجهه من مواقف والتي تتجاوز تلك السطحية التي يفكر فيها هؤلاء. فإنسان اليوم قبل أن يكون بحاجة إلى خلطات التجميل والميك أب، بحاجة إلى لقمة العيش التي يؤمِّن بها حياته وحياة أبنائه، فما بين باحث عن عمل ومسرِّح من عمله في واقعنا الوطني، أو بين مشرَّد يبحث عن مأوى ومكان آمن في إقليمنا العربي وبعض مناطق العالم، لذلك أصبح المواطن في أي بقعة من الأرض على وعي بأهداف هذه المنصَّات وأقصى الغايات التي يحملها هؤلاء المشاهير؛ وهي غايات وأهداف على ما يبدو لم توفق في البحث في فلسفة بناء الإنسان واحتواء قضاياه، والدخول في واقعه، واستلهام العِبر والمعاني من الأحداث والأزمات التي باتت تعايشه.
ومعنى ذلك أن استمرار الظاهرة الصوتية التي بدأت مع مشاهير (السوشل ميديا) لن يكتب لها البقاء كثيرا، وما هي إلا سحابة صيف ما تلبث أن تنقشع أمام صرخة البشر واستغاثاتهم، وثورة النفس في التغيير، وإعادة هندسة الحياة في ظلال المبادئ والأخلاق والقِيَم، وأصبحت قدرة هذه المنصَّات على التكيُّف مع الواقع الجديد مرهونة بتقديم محتوى رصين آمن احترافي، يقترب من اهتمامات الناس وأولوياتهم، ويوفر لهم الخيارات والبدائل في مواجهة أزماتهم الاقتصادية والضائقة المالية وغلاء الأسعار، وقضايا الأمن الاجتماعي بما فيها من جرائم ومشكلات اجتماعية، واتساع الظواهر المجتمعية والنفسية المقلقة على حياة المجتمعات واستقرار الأوطان، ذلك أن المتابع لما يقدمه هؤلاء المشاهير في أكثر الأحايين، عبارة عن محتوى فارغ لا يلمس الأولويات ولا يصنع القوة، ولا يتعدَّى محتواها، مجرد إعلانات تجارية مدفوعة الأجر حول المنتجات الجسدية والجنسية، محتوى يعيش حالة الصراع مع نفسه، يفتقد لصحوة الضمير، ومنهج الإصلاح، وروح التغيير، يكرر نفسه، مترفعا على غيره، واضعا استغلال الناس ماديا، ومحاولة التأثير فيهم نفسا بما يعرضه عليهم من منتجات أو يمارسه في سبيل إقناعهم من أساليب لا تعبِّر عن حياتهم الحقيقية أو نظام معيشتهم اليومية حتى أفقد الثقة فيها؛ وبالتالي تتجه التوقعات إلى تعظيم القيمة للمحتوى النوعي الهادف، والسلوك التفاعلي الاحترافي الذي يحمل الخُلُق ويؤسس المهارة، ويبني القِيَم، ويؤطِّر الموهبة، ويمتلك حسَّ الذوق والشعور باحترام الآخر: خُلقه ودينه ومنهجه، وما يعنيه ذلك أن البقاء سيكون للأصلح، سواء في محتوى معرفي وفكري وعملي ناضج وفاعل وآمن، واحترافية مشاهير يجسدون في أولوياتهم قِيَم وأخلاقيات ومبادئ هذه الرسالة التي يحملونها على عاتقهم، وفي ظل الثقافة المضادة التي باتت تؤسسها الشعوب في مواجهة غوغائية المشاهير بما يقدمه بعضهم من محتوى غير موثوق أو مسار غير واضح، أو سلوك لا يتفق مع الهُويات، ولا يجسِّد خصوصيات الشعوب وأخلاقياتها.
لقد أسهمت كومة السقطات والفلتات والانحرافات الفكرية التي باتت تلاحق مشاهير (السوشل ميديا)، والممارسات المبتذلة من بعضهم في المظهر والسلوك في أثناء عملية الترويج للمنتج أو عرض السلع أو غيرها، في صورة يُفهم منها مغازٍ أخرى تتعلق بإبراز الخصوصية الذاتية، والتشجيع على الإثارة والفتنة، أو التلميح بغيرها مما يخدش الحياة، أو يتنافى مع الآداب العامة أو يقلل حسَّ الذوق العام، في غاية دنيئة لسرقة الأضواء، والدخول إلى باب الشهرة، والمنافسات العارية على حساب الجسد والقِيَم والأخلاقيات والهُوية، في رسم صورة مشوّهة لهذه المنصَّات وأسهمت في فقدان الثقة بها، مما عزَّز من وجود الثقافة المضادة لهذه التصرفات والتي بدأت تقدم للجمهور تفسيرات وتحليلات ونقد مستمر مؤطر حول هذه الممارسات التي يقوم به المشاهير، متَّخذة من الهُوية والإطار القِيَمي والأخلاقي للمجتمع محطة للمراجعة والوقوف على هذا الفعل، وقياس مستوى اقتراب أو ابتعاد المشاهير منها وتجاوز هذه الخطوط الحمراء التي يتفق الجميع على أن لا مساس بها، كما أن التحصين الذي اكتسبه الكثير من المتابعين ومستخدمي منصَّات التواصل الاجتماعي في ظل ما ارتبط بهذه المنصَّات من مساوئ التجييش الإلكتروني والتنمُّر الفكري والابتزاز والاحتيال وغيرها، ولدت لديهم قناعات نحو المزيد من الحذر والخصوصية، كما عزَّزت فيهم قوة المواجهة والنقد مستفيدين من تجليات القانون في هذا الشأن، بما انعكس على مستوى تعاطي المجتمع مع ما يروِّج له هؤلاء المشاهير، وفلترة المحتوى بما يتناسب مع ظروفه، ويتعايش مع مبادئه وقناعاته، وبالتالي فإن هذه المعطيات تضع المشاهير أمام واقع جديد عليهم الوقوف على حقائقه، وفهم مؤشراته، وإعادة التفكير في نوع المحتوى المقدم الذي تقدره الشعوب وتعترف به.
من هنا فإن المنافسة القادمة ستكون للمحتوى الهادف، وإنتاج القوة تكمن في كفاءة المحتوى والرسالة التي يحملها، تاركا المعلبات الفارغة وخداع المظاهر والبحث عن الشهرة في غياهب الجب، كما لا يستقيم معه حالات الانحراف الفكري والمنهجي والسلوكي، أو أن يقرأ في إطار فئة معيَّنة تعيش مرحلة المراهقة ونزعة تمجيد مفاهيم التقليد، أو حب البزخ والجري وراء الموضة والموديلات أو غيرها التي يدور في خلدها شغف التجريب وحب الاكتشاف والمخاطرة، وبالتالي فإن مسؤولية المشاهير تتجاوز حدود الترويج لمنتج معيَّن أو لشركة ما ومؤسسات معيَّنة، وإضحاك الناس وإشغالهم بالطرازات (الموديلات) الجديدة والموضات المتعدِّدة في عالم الأزياء والميك أب وتسريحات الشعر والخلطات السحرية لرشاقة الجسم أو زيادة الإثارة الجنسية، وغيرها مما استهلكه الناس وضاقت به ذرعا؛ بل مسؤوليته أعظم من ذلك وأدق في تفاصيلها وبنائها، في تقديم محتوى قوي في بنيته، متنوِّع في منصَّاته، ناضج في حواره، يقدم نفسه للمجتمع، ويتعاطى مع قضاياه بواقعية ومهنية، يبحث في العمق، ويقرأ ما بين السطور، ويحاور النفوس التي بدأت تحيد عن إنسانيتها في كومة الشحنات والمشاعر السلبية والتشاؤم والإحباطات في مواجهة واقعها والتعايش مع أزماتها وظروفها، بما يحمله على عاتقه أمانة تاريخية ورسالة إنسانية حضارية أخلاقية في أن يكون المثال والنموذج الذي يصنع حضوره تحولا إيجابيا في حياة بني جنسه، بما يحمله من أهداف الحياة الراقية، وما يلتزمه من معايير الذوق العام والآداب والأخلاق، وما يمثله من ثقافة المجتمع وخصوصيته وهُويته، ليجسِّد في شخصيته الإنسان الواعي والمواطن المخلص، وهو مع ذلك يقدم محتواه بكل أريحية ومهنية، تاركا للمتابعين الاختيار وحرية الانتقاء، فلا يملي عليهم وصايته، كما لا يلزمهم بمسار اختاره، بل يفتح لهم المجال في خيارات واسعة وفرص متنوعة، فينطلق بهم إلى آفاق رحبة، ويحلِّق بهم في سماوات العطاء المتفرد، ويستلهم فيهم روح التغيير الذاتي لصلاح الإنسان وتقدم وازدهار الأوطان.
أخيرا، فإن ما سطَّرناه من لطائف إنما هو رسالة عتاب واستنهاض للنفس ولمشاهير (السوشل ميديا) في أن يكونوا خيرا للإنسان وسندا للأوطان، فإن قادم الأمر لن يكون في صالحهم إن لم يثبتوا للمجتمعات صدقهم وإخلاصهم، ويصنعوا في أنفسهم نماذج أخلاقية تؤسس إنسانية الشعور بالآخر وتصنع له حضوره في عالم مضطرب، ويبقى في سعي الحكومات ومواطنيها والمنظومات التشريعية والقانونية والحقوقيين وغيرهم نحو إيجاد تشريعات واضحة تقنن دور مشاهير (السوشل ميديا)، وصناعة ميثاق أخلاقي لرسالة مشاهير (السوشل ميديا)، محطات لالتقاط الأنفاس، وحراك صحِّي يبشر بصحوة فكرية للشعوب في وقف مهزلة المحتوى الرقمي الهابط لبعض هؤلاء المشاهير وغيرهم من مستخدمي منصَّات التواصل الاجتماعي؛ ذلك أنه لن يكتب الاستمرارية للمنصَّات التي تتجه بالإنسان إلى الفردانية والغوغائية والشهوانية والوقتية، وتمجيد الأنا والانتصار للذاتية التي لا يمكن بأي حالة أن تصنع إنسانا يعتمد على نفسه أو يحمل رسالة الحياة وأبجدياتها ومفرداتها، ولن تجد لها على مرِّ الوقت مصوِّغا للبقاء ما دامت قد اختزلت الواقع في سفاسف الأمور وانحطَّت به إلى دركات السقوط الأخلاقي، وانتزعت من الإنسان ثورة الروح وصدق اليقين، ولن يجد هؤلاء المشاهير من يحيطهم بمتابعته ويمنحهم ثقته وتصفيقه في ظل قوالبهم الفكرية المشوّهة، ومحتواهم الفارغ الذي يكرر نفسه، ومساحتهم الشخصية المبتذلة المتصنعة بما تجسِّده من سطحية الفكر، وفراغ التفكير، ونفوق المساحة القِيَمية والأخلاقية التي تلبس محتواهم ثوب الحكمة وحسَّ المسؤولية، أو ذلك الذي يغرد في سربه مكررا نفسه محدثا لها بكسب مادي سريع، ساعيا للدخول في عالم الشهرة من أوسع أبوابها في فترة زمنية قصيرة ما دام يغرِّد خارج سرب الشعوب وأحلامها والاقتراب من معاناتها في ظل تراكمية الأحداث واتساع الأزمات وتكرر الصدمات، والإجراءات الاقتصادية التي أرهقت كاهل المواطنين.