د.جمال عبدالعزيز أحمد :
.. وتأتي حروف المعاني (إن واللام والواو) لتربط بين الجمل، وتُلقِي بظلالها الحانية على رؤوس الكلمات، وتضع أكاليل الرضا على أصحابها، فبعد أنْ بينت مآل أهل الهدى، وأوضحت أن الله يعطيهم الدنيا، ويعطيهم الآخرة لأنه صاحبهما، عادتْ، فعقَّبت بمآل السيئ، والعاقبة السُّوأَى، فقالت:(فأنذرتكم نارًا تلظى) فالفاء للترتيب والتعقيب، أو هي الفاء الفصيحة، أي المفصحة عن شرط مقدر، أيْ: إن كنتم قد عرفتم كل ذلك، وأدركتم خطورة ما أنتم عليه، فقد أنذرتكم نارا تلظَّى.
والكلمة (تَلَظَّى) تسمع تلظيها، وشدة نارها، وشَيَّها للَّحمِ، والعظام، والأجساد، حتى إن تاءَها هي الأخرى قد راحت، وَشُوِيَتْ، وطارت من أثر الاشتواء، والتلظِّي، فأصلها (تتلظى)، فراحت التاء، وحُذِفَتِ اشتواءً، وتلظِّيًا، لتوضح خطورة النار، وأنها لا يقف أمامها شيء، وإخراج اللسان في الظاء كأنما تتقيأ النفسُ من رائحة شَيِّ اللحوم، وسيلان العظام، وذوبان الأجساد، فالرائحة لا تطاق، والتقيؤ حاصل، واللسان يخرج، والجوف يفرغ ما فيه بالألف اللينة التي تشبه الياء التواء، وضعفًا، وخَوَاءً، ثم تأتي الجملة الثانية تلاحق الأولى ب(لا) النافية و(إلا) الاستثنائية الحاصرة للأشقى:(لا يصلاها إلا الأشقى) فقد قامت (لا وإلا ) بدورها الدلالي في سياقها الرهيب الرعيب، و(الأشقى) أفعل تفضيل من (الشقي)، فلا أحد أشقى منه، ولا إنسان أتعس من هذا الشقيِّ، فقد قامت (لا وإلا) بحصر الشقي في زاوية متأخرة وجوبًا، وقدَّمتْ بين عينيه المفعول به:(ها) الضمير العائدة على النار المتلظية، فقد وجدها تسبقه في صورة المفعول المقدم وجوبًا، لتراه عينه سريعًا، ويتأخر عنه احتقارًا له، ويُحصَر حبسًا لكرامته، وتهكمًا من تدني آدميته التي لم يكن يحترمها في دنياه، فأخرتْه في أخراه، حيث قام الحصر بدور كبير في بيان دلالة، ومآل، وعاقبة هذا الذي كان يبخل، ويستغني، ويكذِّب بالحسنى، ولا يأبه لآخرة، ولا يوقِّر دينًا، ولا يطيع ربًّا، ولا يوقر للملَكين سؤالًا، ولا يقدِّر عاقبة، ولا مآلًا، وعاش لشهوته، ولتحقيق ملذاته، ولم يكن مرة يوقِّر دينًا، ولا يقيم وزنًا لتعاليم السماء، ولا لحديث الأنبياء، ثم جاء الموصول (الذي) ليلطمه على وجهه، مبرزًا بقيَّة صورته الكالحة:(الذي كذَّب وتولَّى)، وترى تشديد الذال متعبًا، ومبيِّنًا كم بذل هذا الشخص من جهد في سبيل الصد عن دين الله، وترى اللام المشددة التي تبيِّن ليَّ لسانه، ولعبه بفصاحته لحجب الخلق عن الخالق، وإعطائه ظهره لمطلوب ربه، فترى أقدامه مسرعة مدبرة تكشف عنها اللام المشددة التي تبيِّن سرعة جريه، وتولِّيه عن ربه، وترسم صورة الخائب الجاهل، وهو يفر من الخير، ويهرب من منبع الصلاح، والطهر إلى حياة الخَنا، ومرتع الشياطين، والعيش الدنيء، هذه الصورة المحزنة المبكية القاتمة تقابلها على التوازي صورة مشرقة باسمة نضرة براقة مُسعِدة:(وسيجنبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى)، فهو ليس تقيًّا فقط، وإنما وصل إلى أرفع مستوى، وحصَّل أفعل التفضيل المعرف بأل، وهو أفضل أنواع التفضيل قاطبةً، حيث لا تفضيل بعده في درجات التفضيل في اللغة، والواو عاطفة، والسين للمستقبل القريب المتعجَّل، فتجنُّبه إياها سهلٌ، ميسور، وربه معه يجنِّبه النار، ثم تأتي الصفة تكمل موصوفها باسم الموصول:(الذي يؤتي ماله يتزكى)، والفعل:(يؤتي) من المضارع الرباعي (آتى)، فهو يستمر في عطائه، وهو كذلك يمضي بنفسه إلى الفقير، وفي ضميره وروحه ووعيه أن ربه ناظرٌ إليه، ومولاه مطلع عليه، فهو لحظة (يؤتي) ماله يذكر ربه (يتزكى)، أي: يتطهر، ويقدم ماله، وما يملكه لربه دامعَ العين، والقلب يتمنى على الله القبول، وأن يطهِّر قلبه من أدران الرياء، وتدنِّي المراءاة، ويعطي ما يعطي، وقلبه مدرك أن مولاه يراه، كما قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ، وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ، أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) (المؤمنون 57 ـ 61)، فهم يؤتون كلَّ ما عندهم لله، ومع ذلك قلوبهم وجلة، خائفة أن يُرَدَّ عليهم عملهم، ولا يقبل، وأنهم إلى ربهم راجعون، ويوما ما سيكونون بين يديه، يحاسبهم، وهو عالم نيتهم حال إخراجها، ولحظة التصدق بها، فجملة (يتزكى) في محل نصب حالًا، تبيِّن هيئة حصول الفعل، وهيئة إخراج، وإيتاء ما يؤتون، ثم ختم بما يفرحهم، ويسعدهم، ويشرح صدورهم، حيث بيَّن كمال نيتهم، وجلال رقابتهم لربهم، وأنهم لا ينسون ربهم مطلقًا في دقيق صنيعهم، وجليل أعمالهم:(وما لأحد عنده من نعمة تُجزى)، فهم لا يؤخرون شيئًا عن أحد، ولا يحجبون كل فضلهم عن المعوزين، وكل ما اعتادوا إخراجه لا يمنعونه عن مستحقيه، ولا يحرمون آخذيه، ويجوزن به لا لشيء ولا ارتقاب مدح، ولا انتظار لثناء و(ما) النافية الداخلة على النكرة المجرورة بحرف الصلة أو الحرف الزائد على الرأي الكوفي تستوعب كلَّ نعمة، وتُدرِج تحتها كلَّ فضل، وتنكير (أحد) المجرورة باللام ترشِّح ذلك، وتقوِّيه، أيْ يؤتون كل إنسان، وكل نعمة يبذلونها ابتغاءَ وجه ربهم الأعلى، فهو دائما في عقولهم أعلى، بل هو ربهم الأعلى، إذ يرون أعمالهم لا وزن لها إذا لم تقدَّمْ خالصة لربهم الأعلى، ومولاهم الأكرم، وبناء الفعل (تُجْزَى) لما لم يُسَمَّ فاعلُه يعني كبرَ أنفسهم، وسمو أخلاقهم، فهي (تجزى) بلا انتظار لشكر، ولا ارتقاب لمدح، اللهم إلا إلى ربهم الأعلى، وقد قامت حروفُ المعاني بدور كبير في بيان صفات، وسمات تلك النفس الكبيرة، والذات الكريمة، ولذلك كان هذا الختام الكريم، والتذييل العظيم يطبطب على قلوبهم، ويحنو عليهم مباركًا صنيعهم، وقد ورد على سبيل القسم:(ولسوف يرضى) أي: وعزتي وجلالي لسوف أرضى عنهم، وأجزيهم بثوابي، وأعطيهم على قدري عطاءاتي، والواو حرف قسم، والمقسم به محذوف للعلم به، واللام واقعة في جواب القسم، و(سوف) تفيد المستقبل البعيد، حيث يوم القيامة يوم الحساب لبُعْدِ مقامه، وجلال مكانه، والفعل (يرضى) فُتِحَ، فلم يقيد بشيء بعده ليدخل فيه كلُّ ما يمكن أن يكون جزاءً لهم، وعاقبةُ لجميل فعلهم، وكريم صنيعهم، أيْ يرضى عنهم، وعن أفعالهم، وأقوالهم، وأعمالهم، وعن كلِّ ما قدموه في حياتهم لربهم، ومولاهم، وإلههم، وخالقهم، فهو ختامٌ يناسب جهودهم، ويتناغم مع كمالهم، وسموِّ علاقتهم بربهم، والله خير المعطين، وأكرم الأكرمين، فترى حروف المعاني في السورة الكريمة قد قامتْ بدور كبير، وغير منكور، وبيَّنت العلاقاتِ المعنويةَ بين الكلمات، والجمل، ومَتَّنَتْ بين التراكيب، والأساليب، وشاركت ـ بكل معاني المشاركة ـ في الربط اللفظي، والربط المعنوي: سبكًا وحبكًا، لفظًا ومعنى بين كل أجزاء السورة الكريمة، ووضَّحت أهداف السورة، ومرامي قِيَمِها، ومعاني جملها، وكمال تعبيرها، فصار القارئ بعدها لا ينسى جلالها، ولا يغفل عن مقاصدها، وعرف كَمْ قامت حروف المعاني بإضفاء كمال الدلالات في كل السياقات القرآنية، هذه هي حروف المعاني تنبثُّ بين الجمل، وتربط بين الأساليب، وتعمل عملها في الدلالات، وكل السياقات، ألا، ما أجمل لغة القرآن الكريم!، وما أبدع النظم الحكيم!، وما أرق حروف المعاني ذات الربط بين المباني، وتوضيح المرامي!، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وتُستنزَل البركات، وتَعُمُّ الخيرات، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين.