[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/ahmedalkadedy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د.أحمد القديدي[/author]
”.. لي شخصيا صداقات طيبة وكريمة ربطتني في الأيام الخوالي بالرجلين المحترمين الباجي قايد السبسي والمنصف المرزوقي وأدرك ما يتمتعان به من مخزون الوطنية والاستعداد لخدمة البلاد في مرحلة الاستقرار السياسي والدستوري فقد كانت تربطني بالأستاذ الباجي علاقة عمل سياسي مشترك في بداية الثمانينات وكنا عضوين معا في اللجنة المركزية لحزب بورقيبة في الهزيع الأخير من نظام الزعيم...”
ـــــــــــــــــــــــ
بلادنا تونس الخضراء الجميلة تصل إلى مرفأ السلام والأمن والاستقرار بالاستعداد للمحطة الأخيرة من مسارها الديمقراطي الصعب وهي محطة 21 ديسمبر 2014 حيث يقترع التونسيون والتونسيات على اختيار أحد الرجلين الذين وصلا إلى الدور الحاسم للانتخابات الرئاسية، وكما يقع في أعرق الأنظمة الديمقراطية يحدث في تونس هذا الانتقاء الحر لأحد الرجلين رئيسا منتخبا للمرة الأولى في تونس وإذا استثنينا لبنان للمرة الأولى في جمهوريات العالم العربي بلا شك أو ريب. وأنا من موقعي المحايد البعيد تماما عن أية حسابات أو انتماءات أعتقد أن أفضل نصيحة نقدمها للرجلين ومن يواليهما من أحزاب وقوى وطنية أن ينهج المرشحان نهج التنافس الشريف عوض فتح أبواب التصادم العنيف. فقد أثبتت تجارب الأمم في العصر الحديث أن الزيغ عن سبيل الحوار والاحترام المتبادل ومواجهة البرنامج بالبرنامج يؤدي دائما إلى ضياع المصالح العليا والحقيقية للشعوب وإلى تسابق تصاعدي للعنف الذي يبدأ لفظيا في الخطاب وينتهي بالرصاص والحراب تمهيدا للتدمير والإرهاب في انتظار لا قدر الله اليباب والخراب. تلك كانت مصائر بلدان عربية وإفريقية أعلنت دساتيرها النظام الجمهوري لكن هذه الجمهوريات أصبحت وراثية وقبلية وطائفية ولا فائدة في عرض الأمثلة فهي تملأ الصحف والشاشات يوميا ودورنا هو تعداد ضحايا التقاتل والحروب الأهلية وانتظار الغزو الصليبي القادم بدعوة من هذه الفصائل أو تلك استقواءً على بعضها البعض بالمحتل الغربي في انتظار مصير الممالك الأندلسية التي لم نعتبر بتاريخها على كثرة العبر ومأساوية المصير!
إن لي شخصيا صداقات طيبة وكريمة ربطتني في الأيام الخوالي بالرجلين المحترمين الباجي قايد السبسي والمنصف المرزوقي وأدرك ما يتمتعان به من مخزون الوطنية والاستعداد لخدمة البلاد في مرحلة الاستقرار السياسي والدستوري فقد كانت تربطني بالأستاذ الباجي علاقة عمل سياسي مشترك في بداية الثمانينات وكنا عضوين معا في اللجنة المركزية لحزب بورقيبة في الهزيع الأخير من نظام الزعيم وعرفته وزيرا للخارجية حين كنت أنا مقررا للجنة الشؤون السياسية بالبرلمان وهي التي تناقش ميزانية وزارات السيادة ومديرا لصحيفة الحزب الحاكم وأذكر مواقفه الحازمة في أكتوبر 1985 على إثر قصف الطيران الإسرائيلي لمقر منظمة التحرير الفلسطينية في قرية حمام الشط حين أرسله بورقيبة إلى نيو يورك يدافع عن موقف تونس بعد ذلك العدوان الدموي الذي استهدف ياسر عرفات واستشهد فيه تونسيون وفلسطينيون وكان بورقيبة لأول مرة في تاريخ تونس الحديثة هدد سفير الولايات المتحدة الأميركية (بيتر سيبستيان) بقطع علاقات بلادنا بواشنطن لو استعملت أميركا الفيتو لمنع مجلس الأمن من إدانة تل أبيب وقام الباجي بجهود جبارة في هذه المحنة السياسية وأذكر أني من مكتبي بجريدة (العمل) هاتفته وهو في غرفته في الفندق بنيويورك ليبلغني بالنبإ السعيد وهو أن واشنطن لم ترفع الفيتو في وجه قرار مجلس الأمن الذي يدين العدوان الإسرائيلي وفي سياق متصل بنفس الحدث استقبلت في مكتبي بعد أسبوع السفير الأميركي (بيتر سيبستيان) وهو مستعرب يتكلم لغة عربية سليمة ليستطلع رأيا أو يفهم موقفا أو يسلط ضوءا مني ومن غيري كعادة السفراء وأذكر أنه حدثني بمرارة ودهشة عن لقائه الأخير والوحيد مع الرئيس بورقيبة وكيف أن الزعيم حين دخل عليه السفير حياه ببرود ولم يدعه للجلوس بل خاطبه بغضب وهو واقف أمام مكتب الرئيس قائلا: إبعث برقية عاجلة إلى الرئيس ريجان و قل له بورقيبة يعلمك أنه سيقطع العلاقات الدبلوماسية مع واشنطن إذا ما عطلتم قرار الإدانة كعادتكم! وظلت علاقاتي بالباجي طيبة حيث تفضل باستقبالي وهو رئيس للحكومة ما بعد الثورة بعد مغادرتي لسفارة تونس بالدوحة وكنت قبل أن يستقبلني اتصلت بالصديق الشيخ راشد الغنوشي فطلب مني بمودة أن أسعى بالصلح بينه وبين الباجي على إثر تلاسن قال فيه الغنوشي بأن الباجي رجل من الأرشيف فرد الباجي قائلا أنا و أنت من الأرشيف يا شيخ. ورجوت الباجي ان يطوي الصفحة وقلت له بلهجة الهزل ما دامت المباراة نتيجتها التعادل فقبل رئيس الحكومة وساطتي وأعلمت الشيخ والتقى الرجلان يوم الغد وكان للقائهما تأثير إيجابي على مسار الوفاق. أما (خويا المنصف) كما كنت أدعوه منذ عرفته (المنصف المرزوقي) فعلاقتي به تعود إلى أيام الجمر فقد راسلته من منفاي سنة 1988 ورد علي برسالة جريئة أحتفظ بها إلى اليوم بخط يده كرئيس لرابطة حقوق الإنسان فشد أزري وتأكد لي ولصديق المنفى محمد مزالي أنه من المعدن المثقف الذي لا يتردد عن نصرة الحق وأضاف لهذا التحرك مقالا نشره له رئيس تحرير (الصباح) الزميل الاستثنائي صاحب المواقف الجسورة في الشدائد عبد اللطيف الفراتي وهو بعنوان (راكب الأسد) دافع فيه عنا وعدد أخطاء دولة بورقيبة التي ذهبنا ضحاياها ثم شاركت مع (خويا المنصف) في نفس برامج الفضائية اللندنية (المستقلة) في أيام الأحد سنة 2001 و2002 و كنا مجموعة من المعارضين اختلفت مراجعنا واتفقت طموحاتنا في مقاومة الاستبداد بشجاعة كانت نادرة وقليل رجالها في تلك السنوات العجاف والفضل في هذه المبادرة يعود للصديق الوفي د.الهاشمي الحامدي. ثم التحق بنا د. المنصف في المنفى الباريسي في بداية الألفية وجمعت بيننا عشرات اللقاءات مع محمد مزالي وأحمد بنور وأحمد بن صالح وقادة النهضة واستطعنا رغم اختلاف الانتماءات والأمزجة أن ننسق جهودنا وأن ننضج الثورة التي قامت فيما بعد سنة 2010 وكانت علاقتي بالمنصف في الحقيقة ذات طابعين: طابع السياسة وإرادة التغيير في بلادنا وطابع الكتابة الأدبية لأن المنصف كاتب متميز عرف في مؤلفاته كيف يقص بلغة عميقة وبليغة مراحل معاناته الشخصية المتمثلة أولا في فقدان الأب على الصعيد الشخصي وفي فقدان بلادنا فضيلة الحرية على الصعيد السياسي وأعجبت جدا بأسلوبه وبصدقه كما أعجب هو بكتابي (ذكريات من السلطة إلى المنفى) الذي صدر لي في عز قوة السلطان الجائر سنة 2005 في دمشق ثم في جدة وانتقدت فيه منظومة الاستبداد والقهر. وهو يعرف أني في التسعينات ساعدته بصدق في زياراته للدوحة وعرفته على مجالس الشيوخ وعلى الأساتذة والكوادر التونسية المقيمة في هذا البلد الأمين وكنت استقبله في مهبط الطائرة وأرافقه في زيارته لقطر مما لم يكن خافيا على السفارة التونسية أنذاك و منذ استقر في منفاه الفرنسي زارني المنصف في عديد من أيام الأحد في بيتي الريفي في ضواحي باريس إما وحده وإما مرفوقا بالصديقين هيثم مناع وزوجته فيوليت داغر وهو يحب أن نتجول معا في غابة خلابة تحيط بالمنزل وأن نتبادل الرأي حول السياسة والأدب ومع حلول التغيير سنة 2011 عاد هو إلى أرض الوطن ويبدو أنه لم يكن متفهما لقبولي لمنصب سفيرا لوطني لدى دولة قطر لأني أعرفه ذو مزاج راديكالي (وعبارة راديكالي لطيفة لوصف حدة طبعه لأن صديقه ومستشاره عزيز كريشان يسميه متطرفا أما أحمد ابراهيم زعيم الحزب اليساري فيقول عنه إنه مصاب بالجنون المدمر! راجع مجلة ليدرز عدد 13 ديسمبر2014) أما أنا فأتفهمه ولكني لا أوافقه لأن السياسة نتائج وليست مواقف فحسب. ولست هنا في مجال عرض المكاسب التي تحققت بين الدولتين تونس وقطرلأن الجالية التونسية تعرفها وعاشتها. هذه بعض شذرات من شهادتي المتواضعة على رجال وأحداث وأملي أن نكمل طريق الوفاق بالحوار والاحترام لا بالعنف والصدام.