عادل سعد:
بينما ينتهي التناحر اشتقاقًا لغويًّا إلى الانتحار، يظل مفهوم التنافس عند حدود المغالبة التي قد تكون ضرورية إذا كانت تحت سيطرة مقاييس شفافة وشريفة، لكنها قد تسقط باتجاه التناحر وعندها تكون مخاطر الانهيار والتفكك قد امتلكت فرص التسيد والاستطالة المحزنة.
في المشهد العام اللبناني، هناك الآن فرص إضافية متاحة للتناحر في أكثر من ميدان واحد، تحركها أجندة بنعرات اجتماعية ومناطقية، وتوسع حدودها خصومات شخصية، أغلبها يجد في التنازل عن تلك الخصومات خسارة له، وبالتالي لحاشيته حسب درجة القربى والولاء وإن كان البعض يرمي بالأسباب جميعها على تدخلات إقليمية ودولية.
أصل الداء داخليًّا بدليل الخلافات الحصصية التي ظلت تضرب لبنان منذ السنوات الأولى للاستقلال، وقادت إلى أتون حرب أهلية بين عامي 1975 ـ 1990 انتهت إلى اتفاق الطائف عام 1989 ضمن وثيقة وفاق وطني، ثم توالدت الأزمة مجددًا وأفضت إلى اتفاق الدوحة عام 2008 إثر خلافات طاحنة دامت سنة ونصف السنة.
لقد ترافقت مع كل هذه السنوات الطويلة تسويات وخصومات وتصفيات جسدية وتشهير ونصب كمائن، وهكذا ظل لبنان على الحافة، وكأن ذلك قدره الذي لا فكاك منه، لكنه في الأزمة السياسية الحالية مهدد بالانهيار الكامل؛ لأنها تتزامن وتتداخل مع أزمة أخرى محركها الأساسي انكشاف اقتصادي يغذِّيه انكفاء في الائتمان وتراجع حاد في قيمة الليرة اللبنانية.
آخر الشهادات الموثقة عن ذلك صدرت عن مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل الذي زار بيروت خلال الأسبوع الحالي والتقى مسؤولين لبنانيين وخرج بقناعة لم يحجبها خلال مؤتمره الصحفي في ختام الزيارة قائلًا إن التناحر الشخصي مصدر الأزمة. المشهد الآن في ذروة الالتباس، أصدقاء لبنان ضمن المجموعة الفرانكفونية اعترفوا جهارًا بأنهم لا يستطيعون إنقاذ ما يمكن إنقاذه إلا إذا استعاد السياسيون اللبنانيون الوعي بالمسؤولية الوطنية الجامعة.
لقد أطيح بمبادرة الرئيس الفرنسي ماكرون وعلَّق صندوق النقد الدولي الفرصة بمعاونة الليرة اللبنانية من الانهيار المطلق، وتدحرج مشهد التأليف الحكومي في متاهات الثلث الضامن، أو المعطل، ومن يملك الإصلاحيات النهائية في تسمية الطاقم الوزاري، ودخلت الخصومات حيزًا غير مسبوق بين الرئاسات الثلاثة، وهناك تهديد جدي برفع الدعم الحكومي عن السلع الضرورية، بل هناك تذبذب واضح في مراوحة مفضوحة لمنع التحقيق الجنائي في مجسات الفساد، واستمرار تهريب موجودات كبيرة من العملات الأجنبية بأغطية متعددة، الوضع الذي أوشك فيه الاحتياطي النقدي على النفاذ، وتباين بين من يريد الذهاب شرقًا طلبًا للنجدة وآخرين لا يرون المساعدة والبركة إلا بالمنظومة الأوروبية الأميركية.
في رواية الساعة الخامسة والعشرين لقسطنطين فيرجيل جيورجيو التي أرخت للحرب العالمية الثانية هناك خاتمة تدعو إلى أخذ صورة تذكارية مزينة بابتسامة وسط الخراب، المشهد المشابه لبنانيًّا، حفلات موسيقية يتحلق حولها لبنانيون، بعضهم جائعون وسط انقطاعات مدمرة للخدمات وزحام على المستشفيات بسبب كورونا، وطوابير ليس لها نهايات على ربطات خبز مدعوم وآلاف يفتشون في مزابل الأغنياء وسط سؤال: لماذا تراجعت كميات تلك المزابل؟ المشهد يمتد إلى انقطاع تحويلات لبنانيين مغتربين على المصارف، واشتداد هجرة مشروعة وغير مشروعة، فيا لها من سريالية لبنانية تضاهي أجواء لوحة سلفادور دالي (الزرافة المحترقة) أشهر أعماله التشكيلية، ولكن مع كل تلك السريالية لا شيء ينبئ بالفاجعة القاطعة.
بالمصادفة وحدها استوقفتني معلومة فلسفية جوهرية جاءت على لسان ذلك المشرَّد اللبناني المثقف الذي التقيته في الروشة البيروتية وسبق لي أن كتبت عنه، لقد تحدث لي عن صفقات سياسية لبيع الهواء والخبز، وعن طائر عنقاء لم يركبه اليأس من التحليق مجددًا ومشاريع لتفكيك الانسداد، كيف، الرابط، مقياس شكسبير، (أن تكن أو لا تكن تلك هي المسألة).