د. أحمد مصطفى أحمد:
انطلقت الأسبوع الماضي في بريطانيا قناة تلفزيونية إخبارية جديدة "تستهدف منافسة بي بي سي وسكاي نيوز" على المشاهد البريطاني المتابع للأخبار. على رأس القناة التي جرى الإعداد لها منذ مدة، مذيع "بي بي سي" السابق أندرو نيل المعروف بآرائه اليمينية ومحاولاته مزج الخبر بالرأي وعدم التقيد بالموضوعية التقليدية في مقابلاته التلفزيونية في "بي بي سي" قبل الاستقالة منها. واعتبر أندرو نيل من قبل كثيرين في بريطانيا، خصوصا من أنصار حزب المحافظين واليمين القومي، على أنه الوحيد الذي يوازن غلبة التيار اليساري على الخط التحريري لهيئة الإذاعة البريطانية. ومع أن سكاي نيوز، التي انطلقت قبل نحو ثلاثة عقود لمنافسة "بي بي سي"، لا يمكن اعتبارها "يسارية" وهي التي أسسها ملياردير الإعلام الأسترالي روبرت ميردوخ مؤسس فوكس نيوز الأميركية، إلا أن القناة الجديدة بشرت بأنها ستكون أيضا منافسة لها.
وعلى عكس الترويج لها، لم تترك قناة جي بي نيوز (أخبار بريطانيا العظمى) انطباعا جيدا. ليس فقط بسبب مشاكلها الفنية المتكررة منذ لحظة انطلاقها، ولا ضعف الشكل والمحتوى بطريقة أثارت السخرية، وإنما لأنها أيضا لم تلفت انتباه ما ادعت أنها تستهدفه من جمهور. صحيح أن العالم أصبح زاخرا بمنافذ ترويج الرأي بدل الخبر ونظريات المؤامرة بدلا من التحليلات الجادة والخرافة والتضليل بدلا من البحث عن الحقيقة، لكن فكرة منفذ إعلامي جديد ومختلف ـ حتى لو كان المرء ضد توجهه ـ يعد إضافة للمهنة التي تعاني بالفعل. لذا كان الإحباط كبيرا، خصوصا من قبل الصحفيين ومن لهم علاقة بمهنة الإعلام إلى حد يشابه إطلاق صرخة "وا مهنتاه" – كالمرأة التي اختطفها الروم فاستنجدت بالمعتصم بالله في القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي. بالطبع لا يمكن لوم "جي بي نيوز" وأندرو نيل على فقدان مهنة الصحافة والإعلام الكثير من مقوماتها، لكن خيبة القناة تضيف لخيبات هذه المهنة التي تعاني في السنوات الأخيرة.
ربما يرى كثيرون، عن حق بالتأكيد، أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ووباء كورونا العام لعبا دورا مهمًّا في "ضرب" ما تبقى من مهنية الصحافة والإعلام. ترامب بحربه مع الصحافة منذ أول أيام حكمه ولجوئه لمواقع التواصل، خصوصا "تويتر"، لترويج "الحقائق البديلة" والخرافات والتضليل. ووباء كورونا بكل ما صاحبه من نظريات المؤامرة والدجل والتضليل المنافي للعلم والمروِّج للخزعبلات. لكن الواقع أن هذه المهنة، التي كانت يوما توصف بأنها "السلطة الرابعة" إلى جانب السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، تعاني منذ نهايات القرن الماضي. ورغم أن تطور الإنترنت لعب دورا رئيسيا في هذا التدهور، فلا يمكن إرجاع ما أصاب المهنة لذلك وحده، إنما هناك عوامل لا تقل أهمية تتعلق بالمهنيين أنفسهم ـ من صحفيين وإعلاميين ـ وبالمناخ العام في دول العالم. ربما يحلو للبعض من المهتمين بالمهنة أن يقارن بين الإعلام الغربي، خصوصا الأميركي والبريطاني، والإعلام في دول الشرق من الصين والهند إلى بلادنا العربية. ولطالما كان الإعلام الأميركي والبريطاني مضرب المثل لكل من يعملون في هذه المهنة في التمتع بالحرية وبالتالي القدرة على التأثير. لكن ذلك أخذ في التراجع بالفعل منذ العقد الأخير من القرن الماضي متزامنا مع "الوفرة المسطحة" إذا جاز التعبير. ولننظر مثلا إلى الصحافة البريطانية، فهي تعاني وإن كان بدرجة أقل من نظيرتها الأميركية منذ حكم فترة رئيس الوزراء العمالي توني بلير (ومستشاريه من جون بيرت مدير بي بي سي السابق إلى أليستر كامبل رئيس تحرير سابق لصحيفة تابلويد). والآن مثلا، لم يعد بوريس جونسون يخشى إعلاما، ولا غيره من المسؤولين الذين كان مجرد نشر خبر يثير الشك يجعلهم يستقيلون أو على الأقل يشكلون لجنة تقصي حقائق، وإن كان معناها دفن الموضوع.
إنها الوفرة التي جعلت المهنة تواجه تحديات لم ينتبه لها أهلها وانساقوا في غمرتها، والتسطيح الذي جعل مواقع التواصل وتطبيقات التكنولوجيا الجديدة وسيلة توصيل لغير الصحافة؛ لأن الصحفيين لم ينتبهوا لذلك ولم يبذلوا الجهد لاستغلالها في سياقها الصحيح كأدوات توصيل، وليس وسيلة إنتاج محتوى ومصدر معلومات. ثم هناك السياق الأوسع الذي بدأه تيار يسار الوسط في الغرب (مرة أخرى وقت حكم توني بلير في لندن والرئيس الديموقراطي في واشنطن بيل كلينتون) واستفاد منه اليمين المتشدد. وإذا كانت الصحافة في بلد مثل الصين لا تخرج عن خط اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الذي يدير الصين، فإن الصحافة في الهند ما زالت نموذجا جيدا للحفاظ على قدر كبير من أصول المهنة على عكس أستراليا مثلا التي يحكم صحافتها وإعلامها نفوذ المصالح وعلاقات الثروة والسلطة.
للأسف الشديد، فإن المهنة في بلادنا تأثرت بكل ما هو سلبي في كل ركن من أركان العالم. ورغم وجود صحفيين جيدين ومهنيين على كفاءة، إلا أن السياق العام في الصحافة العربية أصبح يجعل صرخة "وا مهنتاه" أضعف الإيمان. فلم يعد يحكم العمل الصحفي أي من قواعد المهنة، ولم يعد "الصالح العام" دافع نشر الأخبار، إلا فيما ندر من منافذ ما زالت تحافظ على الحد الأدنى من المهنية. وأصبح المحتوى الصحفي ينافس الإثارة على تطبيقات الإنترنت حتى لم تعد تجد فيه كثيرا "مما ينفع الناس".