د.جمال عبدالعزيز أحمد ✽

.. السَّبْكُ والْحَبْكُ مصطلحان حديثان من مصطلحات علم لغة النص، أو لسانيات النص، تلك العلوم التي ظهرت حديثًا، وكثرت مصطلحاتها، غير أنها لا تعدو أن تكون مما تركه الأسلاف اللغويون، كابن جني، وابن يعيش، وابن هشام، وأبو حيان، والزجاج، والفراء، والنحاس، والزمخشري، والسمين الحلبي، كما بحثها على كل مستوياتها الإمام برهان الدين البقاعي (809 ـ 885 هـ) في كتابه القيم: (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور) ذلك السفر الذي يُعَدُّ من الكتب الجليلة في بابها، الرائعة في معناها، والماتعة في مبناها، حيث وضع فيه عِلْمًا لم يسبقه إليه أحد حقًّا، ويُعَدُّ باكورة علم لغة النص، أو علم اللسانيات، أو لسانيات الخطاب او النص، وقد ذَكَرَ فيه مناسباتِ ترتيب السور، وترتيب الآيات، وقد أطال فيه التدبر، والتفكر، وأنعم، وأمعن فيه النظر المحيط، والتفكر الواسع لآيات الكتاب العزيز، الذي يُعَدُّ في رأيي من أهمِّ ما تركه السلف في قضية نحو النص، بكل أبعادها، وأركانها، غير أنه لم تَجْرِ على ألسنتهم مصطلحات السبك، والحبك، والاحتباك، والترابط النصي، والتماسك النصي، والأنساق اللغوية، والتضام، ونحوها مما ابْتُدِعَ حديثًا، وهو في النهاية شرح لما خلَّده أئمتُنا الأبرار، في تراثهم اللغوي، والنَّصِّيِّ الكبير، وقد اشتمل الكتاب على أحد جوانب الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، وبين الربط بين جميع أجزاء القرآن الكريم، ووجه النظم مفصلا بين كل آية، وآية، في كل سورة من القرآن الكريم، وهل هذا إلا العلم الذي طار به الركبان في العصر الحديث، من نحو حديثهم حول قضايا النص، والنصية، والسبك، والحبك، والترابط النصي، والتماسك النصي؟!.
إن السبك في أيسر معانيه هو ذلك الأسلوب الذي كثُرتْ فيه الروابط اللفظية، كحروف الجر، والنصب، والجزم، والعطف، والاستثناء، والجواب، والتوكيد، تلك الأحرف التي تربط بين الجمل، والعبارات بصورة واضحة، وكذلك هو الأسلوب الذي تكثر فيه الصفات، وتتعدد، والبدل، والعطف، والتوكيد التي هي في أربعتها تدخل تحت باب التوابع ، حيث يرتبط ما بعدها بما قبلها برباط لفظي متين، وكذا هو الأسلوب الذي تكثر فيه أدوات الربط في باب الجزم كأحرف الشرط، وأسماء الشرط التي تربط بين الجمل الشرطية: شرطا، وجوابا”، ومثل فاء الجزاء كذلك التي تمتِّن بين الجملتين، ومواضعها معروفة في علم النحو، وكذلك يدخل في السبك عطفُ الجمل (بواو العطف، وفائه) التي تربط الجمل، لا المفردات، وأنواع الواوات، كواو القسم، وواو المعية، وواو الجر، وواو الابتداء، كلُّ ذلك يُحدِث لونًا من الترابط النصي لفظيًّا، ويقوم بدور التماسك النصي من الناحية الشكلية، أو السطحية، وينهض لقضايا الربط، والترابط، وما يتبعها من دلالات، ويرتبط بها من معان تحقق المطلوب، وتنهض للمراد، والمقصود. إنه أشبه بالترابط الداخلي بين أجزاء النص التي كنا ندرسها في النصوص الأدبية قديمًا تحت مصطلح (الموسيقى الظاهرة) التي تتضح في أحرف القافية المتتابعة وإيراد الجناس بنوعيه تامًّا وناقصًا والطباق بنوعيه: إيجابًا وسلبًا، والسجع. أما الحبك فيقصد به الربط المعنوي بين التراكيب، والتداخل بينها بطريقة معنوية، لا لفظية، كارتباط العلة بالمعلول، والنتيجة بالسبب، وكترابط النص: إجمالًا، وتفصيلًا، أو غموضًا، واتِّضاحًا، وكالدلالة المطلقة، وما يتبعها من دلالات تفسيرية، وتوضيحية، إنه أشبه بالترابط الداخلي بين أجزاء النص التي كنا ندرسها في النصوص الأدبية قديما تحت مصطلح (الموسيقى الخفية في النص الأدبي)، وهنا يكون مصطلح السبك والحبك ﺛﻨﺎﺋﻴﺔ ﻣﻔﻬﻮﻣﺔ ﻓﻲ حقل علم لغة النص، وﺗﺤﻠﻴﻞ الخطاب، فيربط السبك بين عناصر سطح النص (كما يقولون)، ويكمن الحبك بين (ﻋﺎﻟﻤﻪ اﻟﻨﺼﻲ المعنوي)، أي أﻧﻬﻤﺎ ﻳﺸﻴﺮان إﻟﻰ كيفية ﺗﻜﻴُّﻒ اﻟﻌﻨﺎﺻﺮ اﻟﺘﻲ تتكون ﺑﻌﻀﻬﺎ ﻣﻊ بعض ﻓﻲ ﺻﻨﻊ اﻟﻤﻌﻨﻰ، وتناغم دلالاته، ونجد في اﻟﺘﺮاث اﻟﻠﻐﻮي والنقدي واﻟﺒﻼﻏﻲ عند اﻟﻌﺮب ﻣﻔﻬﻮمَ السبك والحبك، وأنهم قد استعملوه، ولكنْ بصورة عملية، دون الإشارة إليه لفظًا أو اصطلاحًا معاصرًا، ونتجاوز هنا تلك المقدمة التي أشرنا فيها إلى مفهوم السبك، والحبك، ودخوله ضمن علم لغة النص، أو علم لسانيات النص، لنقرأ بعضًا من آي الذكر الحكيم، لنرى كيف كان السبكُ والحبكُ أساسيين كبيرين، وركنين ركينين في قضية التماسك النصي في آيات الكتاب العزيز، وكيف كانا كذلك مُمَتِّنينِ للآيات، وجاعلينِ قضيةَ الترابط بينها هي الأصل الذي ابْتُنِيَتْ عليه، ونهضتْ على قاعدته بحيث تناغم السبك مع الحبك، وتآزرا، وجعلا آيات السورة، وكلماتها يمسك بعضها بحجز بعض، في ترتيب أنيق، ونظم رقيق، وترابط بديع، وتماسك مَنِيع، وقراءة متتابعة، ومعانٍ مترابطة، ماتعة، وتناميات للدلالات رائعة، لا تجعلك تترك التلاوة، أو سماعها حتى تنهي السورة كاملة، وتجعلك تتابع المعاني، وتواصل الدلالة حتى تسمع قول القارئ:(صدق الله العظيم)، فلا تفيق إلا في آخرها، ولا تشعر بانتهائها إلا والقارئ يصدِّق، وينتهي من تلاوته بالصَّدْقَلَةِ؛ وذلك لشدة ترابطها، وجلال تماسكها، وكمال تواصلها وجمال تداخلها.
وهكذا هي سورة النبأ التي نأخذ بعضَ آيِها الكريمات، ونقرؤها في إطار هذا السبك، وذاك الحبك، ونتذوق معنى التماسك النصي في آياتها، وألفاظها، ونرى الترابط بكل ألوانه: اللفظية، والمعنوية، وهو يعمل عمله، ويؤدِّي دوره في إحداث رؤية كلية للمعنى الإجمالي للآيات، ونراه يؤاخي بين الجمل القرآنية، وكلماتها، ويجذب بعضها إلى بعضها، ويَنْظِمُها بأسلوبه الأخَّاذ، ووسائله البديعة، وأساليبه الرفيعة، كما هي عادة أساليب، وتراكيب الكتاب الحكيم، يقول الله تعالى في سورة النبأ:(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا، حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا، وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا، وَكَأْسًا دِهَاقًا، لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا، جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَابًا، رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا، يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا، ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إلى رَبِّهِ مَآبًا، إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا).
تكلمت الآيات البيِّنات هنا عن الحديث عن مآل المتقين، وما أعده الله لهم، فبدأت بأداة الربط والتأكيد (إِنَّ) التي تطلَّبت اسما، وخبرا، حيث تقدم الخبر وجوبًا:(للمتقين) لبيان رفعة القدر، وسمو المكانة، وتَعرف من خلال هذا التقديم أنه قد عجَّل لهم ببيان فضلهم ليسعدوا، وأن المآل، والعاقبة الحسنة قد أعدها الله لهم، وعاجلهم بها، وأخَّر الاسم (مفازًا) أي: فوزًا كبيرًا واسع المفهوم، لا حد له، ولا وصف له، أي مفاوز كثيرة، لا تُحصَى، ولا تُدرَك، ولا تُعَدُّ، ولا تُتَخَيَّلُ، فجاء اللفظ بالتنكير:(مفازا) بيانًا لكثرتها، وتعدُّدها، وتنوُّعها، واختلافها، وتباين درجاتها، وقد ورد المصدر المفرد هنا (مفازًا) بمعنى الجمع بدليل تفسيره بالجمع:(حدائق وأعنابًا وكواعب أترابًا وكأسًا دهاقًا)، ويقوم المفرد في اللغة مقام الجمع كثيرًا، كما في قوله تعالى:(أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) (النور ـ 31)، ونحو:(فإنهم عدو لي إلا رب العالمين) (الشعراء ـ 77)، فيا له من فضل إلهي!، ويا له من عطاء رباني!، فهو مفرد، ولكن معناه جمع لكونه مصدرًا، وقد ارتبط البدل بالمبدل منه كذلك ارتباطًا عضويًا، كارتباط الرأس بالجسد، والعين بالوجه، فلا يمكن أن يقف القارئ عند:(مفازًا) دون أن يصلها بما بعدها، أيْ بقلبه، وصدره، فالحدائق والأعناب والكواعب والأتراب والكؤوس الدهاق بدل عن:(مفازًا)، وقد ارتبط بها ارتباط الروح بالذات، وكل من:(حدائق وأعنابًا وكواعب أترابًا وكأسًا دهاقًا) هو تفسير للمفاز قبله، حيث يمكن أن يحل ذلك كله بعد كلمة:(مفازًا) محلها، لأن البدل ـ كما قرر النحاة ـ على نية حذف المبدل منه، وإقامة البدل مقامه، فكيف يبدل جمع من مفرد؟. نقول: قد أجاز النحويون ذلك، وأنه لا يشترط عندهم مثل ذلك التطابق في قضية البدل، فقد يُبدَل الجمع فيه من المفرد، وقد يُبدَل المعرَّف فيه من المُنَكَّر، والمُنَكَّر من المعرَّف، كما يبدل المنكَّر من المنكَّر، والمعرَّف من المعرَّف، فهي قسمة رباعية.