محمود عدلي الشريف ✱
لقد جعل الله تعالى لعباده المؤمنين جميعًا أمورًا بها يمكن لهم السعي في طريق الله، يتنافسون ويتسابقون، فيسبقوا ويصلوا إلى رضوانه، فأما من اجتهد منهم فيزداد إيمانًا مع إيمانه، بل وتفتح أبواب للخير تتيح الفرصة للذين قصروا في جنب الله أن يصلحوا من شأنهم، وأن يغيروا من أحوالهم، فلا يكونوا بمنأى عن إخوانهم الذين سبقوهم لطاعة خالقهم، فيجدوا في السعي على طريق الهدى والنور فتصحبهم الطاعة، وتلازمهم الخشية، فيغنموا بمزيد من الإيمان، فتلك الأمور نعمة من الله تعالى أسبغها على عبادة المؤمنين، كالصلاة لصلة نور الله فلا ينقطع، وكالصيام ليكون جنة من كل ذنب، وكالزكاة ليكون طهارة من كل إثم، والحج ليكون تكفيرًا لما اقترف من آثام في العمر كله، كما جاء في (صحيح مسلم 2/ 983 برقم 1350): (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ):(مَنْ أَتَى هَذَا الْبَيْتَ، فَلَمْ يَرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)، ومعنى قوله (عليه الصلاة والسلام):(رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) أي: فلا إثم عليه البتة، شريطة أن يتحقق الوصف الذي هو التقوى، فالتقوى شرطٌ لرفع الإثم عن الحاج، فشريطة أن يكون قد اتقى الله في حجه، فيكون الحج قد ترتبت عليه آثار من محو الذنوب كلها، حتى يقول جمعٌ من أهل العلم أنه يمحو الكبائر والصغائر، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، شريطة أن يكون قد اتقى الله في حجه) (شرح كتاب الحج من صحيح مسلم ـ عبد الكريم الخضير 17/ 9، بترقيم الشاملة آليًا ـ باختصار بسيط).

وحتى نحصل على هذه الثمرة الكبرى، فقد علمنا رسول الله كيفية الاداء بمنتهي الدقة والوضوح، فشرح لنا (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الحج بتفاصيل لا تخفي على أحد، حتى يبلغ كل حاج الغاية المرجوة والهدف الأسمى، فقام (عليه الصلاة والسلام) بمناسك الحج آمرًا إيانا فيما روي (عَنْ جَابِرٍـ رضي الله عنه ـ قَالَ: أَفَاضَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَعَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَأَمَرَهُمْ بِالسَّكِينَةِ وَأَوْضَعَ فِي وَادِي مُحَسِّرٍ وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا الْجِمَارَ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ وَقَالَ:(خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ لَعَلِّي لَا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذَا) (السنن الكبرى للبيهقي 5/ 204 برقم: 9524)، ومن هنا كانت الصورة واضحة أمام كل مؤد لشعيرة وكأنه يرى رسول الله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ رأي العين يؤديها.

وتخيلوا معي ـ إخواني الكرام ـ كأننا نحج بيت الله الحرام ـ نسأل الله زارته لنا جميعًا ـ ورسول بيننا يعملنا المناسك، حقًّا إنه لمشهد عظيم، ولما كنا جميعًا نتمنى أن نحظى بهذه الفرصة العظيمة، هذا ما دعاني لأن أكتب حجه (صلوات ربي وسلامه عليه) وصفته، وكأني بكم ـ أيها الأحبة ـ ننظر إليه ونراه بعيني (أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه ـ قَالَ:(حَجَّ رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى رَحْلٍ رَثٍّ ـ قديم ـ وَقَطِيفَةٍ ـ القَطِيفة: كِسَاء أو فِراش له أهداب ـ تُسَاوِي أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ حَجَّةٌ لَا رِيَاءَ فِيهَا وَلَا سُمْعَةَ) (الجامع الصحيح للسنن والمسانيد 5/1). ويجدر بالذكر ما يلي:(حج رسول اللَّه ـ صلّى اللَّه عليه وسلّم ـ قبل أن يهاجر حججًا، وحج بعد ما هاجر الوداع) ذكره الحاكم، وقيل:(حج ثلاث حجج، حجتين قبل الهجرة، وحجة بعد ما هاجر، معها عمرة) (إمتاع الأسماع 9/ 25)، وقال السهيلي:(ولا ينبغي أن يضاف إليه في الحقيقة إلا حجة الوداع، وإن كان حج مع الناس إذا كان بمكة كما روى الترمذي، فلم يكن ذلك الحج على سنة الحج وكماله، لأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان مغلوبًا على أمره، وكان الحج منقولًا عن وقته، فقد ذكر أنهم كانوا ينقلونه على حساب السّنة والشّهر، يؤخرونه في كل سنة أحد عشر يومًا) (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 8/ 444).

ويجدر بالذكر أيضا (أنه (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) اعتمر أربع عمرات، كلهن في ذي القعدة، الأولى: عمرة الحديبية وهي أولاهن سنة ست فصده المشركون عن البيت فنحر البدن حيث صد بالحديبية، وحلق هو وأصحابه رؤوسهم، وحلقوا من إحرامهم ورجع من عامه ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والثانية: عمرة القضية من العام المقبل دخلها فأقام بها ثلاثًا، ثم خرج بعد كمال عمرته، والثالثة: عمرته ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ من الجعرّانة، لما خرج إلى حنين ثم رجع إلى مكة فاعتمر من الجعرّانة داخلا إلى مكة، والرابعة: التي قرنها مع حجة الوداع) (المرجع السابق 8/ 445).

وهنا سؤال يطرح علينا نفسه ألا وهو: متى فرض الحج؟ وفي الإجابة على هذا السؤال:(اختلاف في وقت ابتداء فرضه، فقيل: قبل الهجرة، وهو شاذ، وقيل: بعدها ثم اختلف في سنته، فالجمهور على أنها سنة ست، وجزم الرافعي في الحج: فرض سنة خمس، وقيل: فرض سنة ثمان، وقيل: تسع، وقيل: عشر حكاها الحافظ في تخريج أحاديث الرافعي، وقال العلماء: فرض الله تعالى الحج على من استطاع إليه سبيلًا، وقد كان السبيل إليه ممنوعًا بقوة المشركين. وأيضا كانوا ينقلون الحج عن وقته، فقد ذكر أنهم ينقلونه عن حساب الشهور الشمسية، ويؤخرونه في كل سنة أحد عشر يومًا، فلم توجد الاستطاعة إلا عند فتح مكة سنة ثمان، فمنع ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ من التعجيل به، فأخّر رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الحج حتى نبذ إلى كل ذي عهد عهده، فلما زالت رسوم الشرك، وسير الجاهلية حج رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ حجة الوداع سنة عشر، وقال فيها: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السماوات والأرض) (المرجع السابق 8/ 443) باختصار.
وذكر ابن سعد في (الطبقات الكبرى، ط: العلمية 2/ 130):(ثُمَّ حجة رَسُول اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالنَّاسِ سنة عشر من مهاجره. وهي الّتي يسمي النّاس حجة الوداع. وكان المسلمون يسمونها حجة الإسلام. قالوا: أقام رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بالمدينة عشر سنين يضحي كل عام ولا يحلق ولا يقصر ويغزو المغازي ولا يحج حتى كَانَ فِي ذي القعدة سنة عشر من مهاجر رَسُول اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فَأَجْمَعَ الخروج إلى الحج وآذن النّاس بذلك، فقدم المدينة بشر كثير يأتمون برسول اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي حَجَّتِهِ ولم يحج غيرها منذ تنبئ إلى أن توفاه اللَّه. وكان ابن عَبَّاس يكره أن يقال حجة الوداع ويقول حجة الْإِسْلَام، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ من المدينة مغتسلًا متدهنًا مترجلًا متجردًا فِي ثوبين صحاريين إزار ورداء، وذلك يوم السبت لخمس ليال بقين من ذي القعدة، فصلى الظهر بذي الحليفة ركعتين وأخرج معه نساءه كلهن فِي الهوادج، وأشعر هديه وقلده ثُمَّ ركب ناقته، فلما استوى عليها بالبيداء أحرم من يومه ذَلِكَ. وكان عَلَى هديه ناجية بْن جندب الأسلمي واختلف علينا فيما أهل بِهِ: فأهل المدينة يقولون أهل بالحج مفردًا، وفي رواية غيرهم أَنَّهُ قرن مَعَ حجته عمرة. وَقَالَ بعضهم دخل مكّة متمتعا بعمرة ثُمَّ أضاف إليها حجة). وفي كل رواية .. والله أعلم.
.. وللحديث بقية حول إتمام مناسكه (صلى الله عليه وسلم).