د. رجب بن علي العويسي:
تطرح التوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ خلال ترؤسه جلالته لمجلس الوزراء الموقَّر في الخامس عشر من يونيو 2021، وتأكيده على أهمية تلمُّس احتياجات المواطنين، ودراسة الظواهر السلبية ووضع الحلول المناسبة لها، خطوطا عريضة لبناء مسار وطني واضح في إدارة هذه الظواهر وتتبعها، والكشف عنها ودراستها وتحليليها، وفهم الدوافع والأسباب التي أسهمت فيها وإيجاد الحلول المناسبة لها بما يتناغم مع هُوية المجتمع العماني، ويجسِّد جهود الحكومة في تحقيق رؤية عُمان 2040 في محور الإنسان والمجتمع، كإطار وطني فاعل لتحقيق التحوُّلات الإيجابية والاستثمار في الفرص لبناء عُمان المستقبل.
وحديث جلالة السلطان عن هذا الموضوع يؤسِّس لمرحلة متقدِّمة من العمل الوطني الجادِّ في قراءة الأبعاد الناتجة عن هذه الظواهر والاستمرار في وضعها موضع الاهتمام والمتابعة والتشخيص من قِبل مؤسسات الجهاز الإداري للدولة والقطاعات المعنيَّة والمنظومات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والتشريعية والقانونية والترويحية والدينية والقِيَمية والأخلاقية في رصد هذه الظواهر، وتبنِّي المبادرات الجادَّة والحلول المقننة لمعالجتها واتخاذ الإجراءات المناسبة التي تضمن سرعة احتوائها، بل تتجه لمرحلة متقدمة من العمل المؤسسي المخطط والأداء المنظم، في تأكيد مبدأ الوقاية والاستباقية في الكشف عنها بالشكل الذي يضمن سدَّ كل منابع ظهورها، وليس لمجرد الاكتفاء بدراسة الظواهر الحالية، لما يمثِّله انتشار هذه الظواهر من مخاطر على حياة المواطن وهُويته وقِيَمه وأخلاقه، وعلى أمن المجتمع واستقراره، وبالتالي يصبح ترك هذه الظواهر بدون معالجات ومراجعات وحلول جذرية فعالة تهدف إلى مكافحتها وتعقبها والقضاء عليها، مدعاة إلى انتشارا واتساع ضراوتها وقوة تأثيرها؛ ومع اتساع هذه الظواهر السلبية في المجتمع العماني، إلا أن التعاطي معها ما زال يتم على استحياء، والتعامل مع نواتجها ما زال يكرر نفسه في دائرة ضيقة مغلقة، سواء في طرق الاكتشاف وأساليب المعالجة وأدوات العمل وتوظيف نتائج المعالجة المتحققة، ومتابعة التنفيذ في الواقع، والقرارات والتشريعات المرتبطة بها، وأدت فجوة التشخيص والتوصيف والتحليل إلى ضبابية الصورة حولها، وقراءة مؤشراتها واحصائياتها، دون محاولة إعطاء صورة مكبرة ترفع سقف الخطورة المترتبة عليها في التصنيف بشأن الظواهر المجتمعية.
وبالتالي حجم ما يطرحه انتشار الظواهر السلبية في مجتمع السلطنة من تحديات في ظل عالم متسعة فضاءاته، مفتوحة أرجاؤه، متداخلة ثقافاته، يتعرض فيه النشء للكثير من المعضلات الفكرية والنفسية، ويواجه فيه حالة من التشويش والضبابية حول الحقائق والثوابت التي يؤمن بها، ويتعرض فيه للتدخلات والتأثيرات، والشحنات السلبية التي باتت تشكل ثقلا فكريا ونفسيا يفوق قدرات البعض، حتى تجاوزت الحدود، ودخلت كل بيت، ورافقت كل أسرة، وهو الأمر الذي عناه جلالة السلطان المعظم في الثاني والعشرين من فبراير لعام 2020 بقوله: "وإننا لندرك جميعا التحديات التي تمليها الظروف الدولية الراهنة، وتأثيراتها على المنطقة وعلينا، كوننا جزءا حيا من هذا العالم، نتفاعل معه، فنؤثر فيه ونتأثر به"؛ وبالتالي صاحب ما عايشه المجتمع العُماني من تحولات في مختلف المجالات، انعكست على حياة المواطن المعيشية واهتماماته المتجددة وطموحاته المتعاظمة واحتياجاته المتسارعة، العديد من الآثار الجانبية الضارة والظواهر السلبية الدخيلة، والتي أصبحت تقف عقبة أمام استفادة المواطن من منجزات التنمية وإيجابياتها المتعددة وفرصها المتنوعة، وفي الوقت نفسه أدى تجاهل وجودها من قبل القطاعات والمؤسسات ذات العلاقة نظرا لتدني رصد المؤشرات الاجتماعية والإحصائية المرتبطة بها وتشخيص نواتجها المباشرة على المجتمع، وعدم تطوير حلول جذرية فاعلة لعلاجها، أو التصدي لها والقضاء عليها في مراحلها المبكرة، إلى تزايد انتشار بعض هذه الظواهر وتفاقم خطرها لعقود متعاقبة، الأمر الذي شكل هاجسا مقلقا لجلالة السلطان المعظم في مجتمع فتي ما زال الشباب يشكل فيه رقما صعبا في التركيبة السكانية للسلطنة، حيث يمثل الشباب والأطفال (الأقل من 29 سنة) الشريحة الأكبر، بحوالي ثلثي السكان العمانيين وما نسبته (65%)، كما تمثل فئة الأطفال (الأقل من 5 سنوات) وحدها أكبر الفئات، حيث بلغت (15%)، ويبقى الحديث عن الظواهر السلبية في مجتمعنا العماني يتسع ليشمل مختلف الممارسات والسلوكيات الوافدة الاجتماعية والاقتصادية والتقنية والإدارية أو ما يرتبط منها بالسلوك الاجتماعي والذوق العام، أو الظواهر المرتبطة بتقنية المعلومات ومشاهير "السوشيال ميديا" والمنصَّات الاجتماعية، وذات العلاقة بالوظيفة العامة، أو غيرها من الممارسات المتكررة التي أصبحت اليوم ظواهر مستجدة مثل: التنمُّر والإشاعة والألعاب الإلكترونية والإعلانات مما لا يسع المجال لذكره، أو تلك العادات والظواهر السلبية الأخرى التي يمارسها المجتمع ويتوارثها بدون وعي بمخاطرها، وكشفت جائحة كورونا (كوفيد19) عن الحاجة إلى إعادة تقييمها وإنتاجها بطريقة تضمن المحافظة على سلامة المجتمع وقوته اقتصاديا واجتماعيا، وتوفير الممكنات الداعمة له للعيش الكريم والحياة السعيدة، وبالتالي رسمت توجيهات جلالة السلطان المعظم لمساحة أوسع في الإحاطة بقضايا الشباب وأولوياتهم وإعادة إنتاج واقعهم بما يتناغم مع أولويات المرحلة ويتناسب مع ظروفها ويجسِّد تطلعاتها، ويعزِّز من فرص التكيف مع ما يستجد في إطار المحافظة على الهُوية والقِيَم الحضارية العمانية الأصيلة.
لقد بات التأثير المتعاظم لهذه الظواهر السلبية يتجاوز حدود الزمان والمكان والأشخاص والفئات إلى إحداث خلل في منظومات بناء المجتمع واختلال في مساحة التوازنات للحفاظ على مساحة القوة حاضرة في مواجهة التحديات، وثبات المبادئ في التعاطي مع المنغصات، وكفاءة الآليات المتخذة في تشخيص هذه الظواهر واستجلاء تأثيراتها على كيانات المجتمع الأخرى ليبقى على تماسكه وتكامله وترابطه وتضامنه آخذا بيد بعضه بعضا في إطار من الشراكة وتقاسم المسؤوليات، فلم تَعُد هذه الظواهر معنيَّة اليوم في حدود قطاعاتها، وتأثيرها لم يقتصر على الفئات الممارسة له، بل أصبحت تشكِّل تهديدا للأمن والسلم الداخلي الوطني، ومكانة السلطنة وموقعها في المجتمع الدولي، ناهيك عن أن الوصول إلى اقتصاد متنوع واستثمار مستدام واستقطاب للاستثمارات الأجنبية يستدعي الحدَّ من هذه الظواهر التي باتت تستهلك ثروات المجتمع، وتستنزف موارده وتوجِّه جهود الحكومة إلى إيجاد حلول لهذه الظواهر على حساب التفكير في الاستثمار في المورد البشري، وإنتاج مجتمع القوة وصناعة اقتصاد واعد وبنية أساسية، وخدمات متكاملة ومؤسسات تصنع المنافسة وتحقق الإنتاجية.
عليه، تظل التوجيهات السامية لجلالة السلطان بدراسة هذه الظواهر محطة لالتقاط الأنفاس، وإعادة التفكير في مسار العمل بجدية أكبر وبآليات أفضل وبنماذج أكثر ابتكارية ومهنية، في ظل اتساع وتعدد هذه الظواهر التي باتت تدق ناقوس الخطر، وتتطلب معالجات أكثر نوعية وابتكارية ومهنية، وأكثر تناغما مع روح التغيير التي يجب أن تسري في حياة المجتمع حفاظا على كينونته وخصوصيته ومحافظة على ما تحقق له من أرصدة نجاح وما التزم به في عقوده الخمسة الماضية من حفاظ على هُويته الوطنية ومبادئه وأخلاقه وحضوره وسيرته وسمته بين العالمين، وبالتالي تكوين ثقافة مجتمعية قادرة على تمييز هذه الظواهر، والتعامل الواعي معها، وإعادة هندسة السلوك الاجتماعي المضاد لهذه الظواهر السلبية، عبر تبنِّي منهجيات عمل رصينة، ومسارات أداء مشتركة، وآليات متابعة وتشخيص وتقييم مقنَّنة تعمل على منع هذه الظواهر والكشف عنها، وفق خطة عمل زمنية تبدأ بتوجيه القطاعات والمؤسسات نحو رصد الظواهر السلبية وتصنيفها وفق القطاعات المختلفة، وفي الوقت نفسه توجيه قطاعات الدولة ومؤسساتها إلى العمل معها في سبيل منع أي مبرر لبروز هذه الظواهر أو التسبب في اتساعها وانتشارها؛ لذلك جاء التوجيه السامي في بادئ الأمر على أهمِّية تلمُّس احتياجات المواطنين، لما يظهر بأن الكثير من هذه الظواهر السلبية بدأت تنشر عندما أغلقت المؤسسات باب الحوار أمام المواطن عامة والشباب خصوصًا أو ابتعدت كثيرا عن تحسس أولوياته وتحقيق طموحاته ليتجه بدوره عندما وجد هذا الصد والرد إلى إنتاج ممارسات أخرى مضادَّة أسهمت في إيجاد هذه الظواهر واتساعها في المجتمع ووجدت قبولا واسعا لها من قِبل الشباب كمساحة للتعبير عن ذاتهم والطريق للحصول على حقوقهم.
أخيرا، تضع التوجيهات السامية مجلس الوزراء الموقَّر والجهاز الإداري للدولة بكل مكوناته وقطاعاته ومنظوماته أمام مسؤولية تاريخية في رصد هذه الظواهر ودراستها، وإيجاد إطار عمل وطني مقنَّن في دراسة هذه الظواهر وإنتاج الحلول المناسبة لها، منطلقا من تشخيص المخاطر المترتبة عليها، والآثار الناتجة عنها، وأولوية التعامل معها، والأدوات التي تحتاجها، ومستوى انتشارها والمتغيرات أو الظروف التي باتت تروج لها، وتكاتف جهود الجميع في سبر أعماق هذا الملف والاستعانة بالخبرات والكفاءات المتخصصة في القطاعات التعليمية والبحثية والاستشرافية، وتعزيز دور المؤسسات التعليمية والأمنية والتشريعية ومراكز البحوث الاجتماعية والإنسانية في دراسة هذه الظواهر وتقييم الجهود الوطنية في معالجتها، للخروج بتشريعات وقوانين وسياسات وخطط وبرامج تقف على تفاصيل هذه الظواهر، وتتخذ الحلول المناسبة لمعالجتها.