[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/mohamedbinsaidalftisy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]محمد بن سعيد الفطيسي[/author]
” .. لا يبدو أن اليابان بالفعل قد استطاعت حتى منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين, أن تخلع جلباب التبعية الأميركية من على جلدها, كما هو حال واقع القارة الأوروبية حتى يومنا هذا, وأن كان ذلك بالطبع لا يمنع بحال من الأحوال من محاولة الاستقلال الذاتي في بعض التصرفات والقرارات الخارجية السيادية كتعبير عن قومية متجددة للفكر السياسي الياباني, ”
ــــــــ
طرحنا في نهاية الجزء الأول من هذه الدراسة السؤال التالي كمدخل لهذا الجزء منها, وهو هل اليابان والهند على وشك ان تصبح قوة إقليمية او دولية عظمى؟
هل اليابان على وشك ان تصبح قوة عظمى تحل محل الولايات المتحدة الأميركية كعملاق المحيط الهادي, وربما حتى الأمة رقم 1 في العالم كله؟
بداية كان من المفترض أن تصبح اليابان اليوم منافسا اقتصاديا وعسكريا قويا للولايات المتحدة الأميركية وغيرها من القوى العالمية الكبرى على سيادة رقعة الشطرنج الدولية بحسب العديد من المراقبين والمحللين الدوليين المرموقين كعالم المستقبليات هيرمان كاهن في كتابه الأشياء المقبلة, وجاك أتالي في كتابه خطوط الأفق, وهما على سبيل المثال لا الحصر, ولم يكن ذلك التوقع بالطبع من محض الصدفة او الفراغ, بل كان واقع حال التحول الذي شهدته مختلف قطاعات الحياة في اليابان وتحديدا الجانب الاقتصادي منه يؤكد بما لا يدع مجالا للشك بأن هناك قوة عالمية حقيقية توشك على البزوغ من بين ركام الحروب.
وقد تنبأ الكثيرون لهذه القوة القادمة بأنها ستكون يوما الشريك وربما الند للولايات المتحدة الأميركية في تقاسم الجغرافيا السياسية العالمية, بالرغم من وجود عدد آخر من القوى الدولية الأكثر تأهيلا وقوة ومكانة عالمية كالصين وروسيا على سبيل المثال, وذلك لاعتبارات حقيقية جعلتها ـ أي اليابان ـ خلال فترة زمنية قصيرة للغاية تتحول من دولة دمرتها الحروب, الى واحدة من أهم واكبر الاقتصاديات العالمية مع الولايات المتحدة الأميركية والصين منذ العقد الثامن للقرن العشرين وحتى يومنا هذا, كما تعتبر اليابان اليوم اكبر مقدم للقروض واكبر متبرع بالمساعدات الخارجية في العالم, والاهم من ذلك ان ذلك التحول السريع قد حصل في فترة زمنية قياسية لم تتجاوز العقدين من الزمن.
وبالفعل فقد ظلت الولايات المتحدة الأميركية وعدد آخر من القوى الكبرى في العالم حتى نهاية العقد التاسع من القرن العشرين تخشى من ذلك التحول المخيف والمتسارع الذي بدأ على الخارطة اليابانية, وقد ورد وصف بليغ لذلك القلق الذي كان يطبق على النفس الأميركية تحديدا في مقال لمجلة نيوزويك في سنة 1989م تحت عنوان " ساعة القوة " , حيث قالت النيوزويك بان ( السؤال المقلق في غرف الاجتماعات والمكاتب الحكومية حول العالم الآن هو, ما إذا كانت اليابان على وشك ان تصبح قوة عظمى تحل محل الولايات المتحدة الأميركية كعملاق المحيط الهادي , وربما حتى الأمة رقم 1 في العالم كله).
اليابان ,, الفرصة الضائعة :
للأسف الشديد فإن اليابان ـ وبالرغم من كل تلك الأوراق الرابحة والواقع القوي , والذي أهلها بكل سهولة لان تكون المنافس الاقتصادي الأقرب مع الصين للولايات المتحدة الأميركية خلال الفترة من عام 1990م وحتى نهاية القرن العشرين ـ اختارت البقاء كحليف استراتيجي- كما تدعي - لهذه الأخيرة, مع ان الأمر يبدو على غير ذلك, فالشراكة تختلف كثيرا عن التبعية والانقياد للنظام والسياسة الأميركية, لدرجة ان يصف هنري كيسينجر النظام السياسي الياباني بقوله:” إن اليابان وبعد هزيمتها في العام 1945م , تبنت نظاما سياسيا برلمانيا ودستورا جرت صياغة معظمه في مقر قيادة الاحتلال الأميركية”.
ولا يبدو ان اليابان بالفعل قد استطاعت حتى منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين, ان تخلع جلباب التبعية الأميركية من على جلدها, كما هو حال واقع القارة الأوروبية حتى يومنا هذا, وان كان ذلك بالطبع لا يمنع بحال من الأحوال من محاولة الاستقلال الذاتي في بعض التصرفات والقرارات الخارجية السيادية كتعبير عن قومية متجددة للفكر السياسي الياباني, فهل هي عقدة الخوف التي خلفتها في نفوسهم القنبلة النووية الأميركية ما يجعل من اليابانيين بالرغم من كل تلك المؤهلات الاقتصادية والعسكرية والسياسية الكبرى, غير قادرين على تحقيق ذلك الطموح المشروع في الاستقلال بفكر جيوسياسي عالمي, يضمن لهم بعض التفوق والقوة الجيوسياسية والجيواستراتيجية على رقعة الشطرنج الدولية خلال العقد الثاني من نفس القرن , او حتى من خلال تواجد قوي في نظام عالمي تعددي تعاوني.
يجيب عن هذا السؤال ريتشارد 0ن0هاس , وهو رئيس لجنة الشؤون الخارجية بوزارة الخارجية الأميركية في كتابه الفرصة بقوله: ”... بل علاقة هذا التردد هي مع النقاش الداخلي الذي لم يصل بعد الى نتيجة حول دور اليابان في العالم , والى أي مدى يجب ان تظل اليابان حالة خاصة بسبب التركة التي خلفتها لها الحرب العالمية الثانية, أي تركة العدوان المسلح, مع ذلك فإن التوجه السائد واضح: انه توجه نحو ان تصبح اليابان أوفر نشاطا في العالم , وأكثر من مجرد قوة اقتصادية ذات بعد واحد”.
وفي حقيقة الأمر هناك عدد ليس بالهين من التحديات والإشكاليات الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية التي واجهتها وتواجهها القوة اليابانية منذ العام 1950, وهى ما جعلتها تعيش تلك الحالة من التبعية والعزلة الاختيارية والخوف الزائف من التغيير الكلي, بالرغم من السعي الرسمي الحقيقي والواضح لتغيير ذلك الواقع لدولة عصرية تملك واحدا من أقوى الاقتصاديات في العالم, ووجود ذلك الكم الهائل من الأوراق الرابحة لتحولها الى قوة عالمية حقيقية خلال السنوات القادمة, وهو ما يجعلنا نتوقع بداية ذلك التحول على اقل تقدير خلال العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
وبالفعل فمع مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين, وتحديدا في العام 2000م, طالبت لجنة شكلها رئيس الوزراء يوشيرو موري حول أهداف اليابان في القرن الحادي والعشرين, بأن تعيد اليابان اكتشاف نفسها من جديد, بعدها بسنة كتب هيساتشي أوأدا بالانترناشنال آفيرز مقالا له تحت عنوان " تشكيل النظام العالمي العام ودور اليابان" قال فيه:” ونظرا لضعف العملية السياسية, والحاجة الى إزالة القيود الحكومية اليابانية, والسكان الزاحفين الى الشيخوخة, ومقاومة الهجرة, فان مثل هذا التغيير لن يكون سهلا, وقد يستغرق استكماله عشر سنوات او أكثر), ولكن هل فعلا كانت العشر سنوات التي توقعها هيساتشي أوأدا وعدد آخر من الكتاب والمحللين الدوليين كافية لعودة اليابان الى الساحة الدولية كلاعب استراتيجي حقيقي, يمكن له ان يكون يوما ندا حقيقيا للاعبين استراتيجيين موجودين فعلا على رقعة الشطرنج الدولية كالولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا؟
البداية اليابانية في الطريق نحو التحول الى العالمية:
الأمر الآخر الذي نود الإشارة إليه هنا, هو ان العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ربما سيكون اقرب للنقطة المفصلية لبداية تحول اليابان نحو العالمية, ولا نعني بذلك الاقتصاد الياباني العالمي أصلا منذ ثمانينيات القرن العشرين, بل نشير الى القوة السياسية والعسكرية اليابانية التي ستبدأ بالظهور والتشكل شيئا فشيء خلال هذه الفترة, وخصوصا ان هناك الكثير من الظروف المحيطة باليابان, والتي تفرض عليها بكل قوة تبني هذا الخيار الاستراتيجي الصعب والمكلف, والذي حاولت اليابان حتى وقت قريب ان تنأى بنفسها عنه في ظل وجود الحليف الأميركي, فمن المرجح أن اليابان ستتأثر كثيرا بالملف النووي الكوري الشمالي والتسلح الصيني المستمر والمتزايد, وعدد من القضايا العالمية التي تهدد مصالحها الإقليمية والدولية، ولذا فإنها سوف تتجه بكل تأكيد نحو تنمية قدراتها الدفاعية وتعزيز بنيتها السياسية والعسكرية الاستراتيجية, وتحديدا اللوجستية منها بشكل تدريجي خلال الفترة القادمة, وذلك من خلال التفكير في أدوات الدعم اللوجيستي للمصالح الخارجية, والتطلع الى مزيد من المشاركات الخارجية السياسية منها والعسكرية , وذلك لإثبات الوجود والمكانة الإقليمية, ومنها بالطبع التأكيد على الدور الياباني العالمي الجديد.
وهو ما برز بالفعل خلال الفترة من العام 2001م وحتى يومنا هذا, وذلك من خلال مشاركة جنودها في ثماني عمليات لحفظ السلام تقوم بها الولايات المتحدة الأميركية وخمس عمليات إغاثة دولية , مع ملاحظة عدم وجود تفويض دولي واضح او تفويض من الأمم المتحدة للقيام بأغلب تلك العمليات, وفي ظل وجود قوانين سياسية يابانية تاريخية صارمة تمنع القيام بإرسال جنود يابانيين للقيام بمثل تلك العمليات خارج القطر الياباني, وهو ما استدعى في وقت من الأوقات ضرورة تغيير بنود كثيرة في الدستور الياباني الذي لم يتغير منذ الحرب العالمية الثانية, فعلى سبيل المثال لا الحصر قامت اليابان بإرسال قواتها خارج حدودها الإقليمية للمشاركة في قوات التحالف في العراق عام 2004 م, وكذلك من خلال إرسال سفنها في مهمات لمكافحة القرصنة قبالة سواحل الصومال منذ مطلع العام 2008م, وكذلك في عملية دوام الحرية في أفغانستان وغيرها من المشاركات الخارجية وأخيرا وليس آخرا بناء اليابان لأول حاملة طائرات لها في تاريخها الحديث وهي ايزومو.
ولا ننسى ان اليابان حتى وقت قريب كانت تطالب بمقعد دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة يتناسب وقوتها الاقتصادية الهائلة, بالرغم من تعنت الصين ووقوف كوريا الشمالية ضد تلك الرغبة, كذلك فان القوة الناعمة والطرية التي تمتلكها اليابان, والتي تتمثل في القوة التكنولوجية والعلمية الهائلة, وتصدرها الرتب المتقدمة عالميا في براءات الاختراع والتصنيع, ومبيعات الكتب والموسيقى وفي عدد مضيفي شبكة الانترنت وتقديم المساعدات الإنمائية وغيرها الكثير, تؤهلها بكل جدارة الى الارتقاء الى مصافي الدول التي سيكون لها مكانة مرموقة وقوة إقليمية أسيوية خلال الفترة القادمة من عمر القرن الحادي والعشرين, ولكن ذلك بالطبع وبحسب المعطيات السابقة لن يكون كقوة جيواستراتيجية عالمية سياسية وعسكرية كما هو الحال مع الولايات المتحدة الأميركية والصين وروسيا, ولكن هو اقرب الى الإقليمية منه الى العالمية , وذلك حتى إشعار آخر.
ملاحظة: سنقوم في الجزء التالي والأخير (3-3) من هذه الدراسة بإذن الله بالإجابة على الأسئلة التالية : ما هو مستقبل الهند على رقعة الشطرنج الإقليمية والدولية الجيوسياسية؟ وما هي العقبات التي تواجهها في ذلك الطريق؟