د.جمال عبد العزيز أحمد:
.. وهكذا هنا يمكن تأويل (المفاز) بكل ألوان الفوز، كأنه قال: إن للمتقين مفائز، لكون اللفظ مصدرًا، ومنكَّرًا كذاك، فيكون حقها المراد:(إن للمتقين مفائز)، ثم عاد ففسر معناها بعده: (حدائق وأعنابًا، وكواعب أترابًا، وكأسًا دهاقًا)، وكونه استعمل الرابط اللفظي (الواو) فقد أدَّى ذلك إلى أنْ أحدث سبْكًا في المعاني، بعد أنْ أحدث سبقًا في المباني، وكلُّ واحدة من عناصر البدل تستحق التذوق، والمعايشة فـ(حدائق) وردت على صيغة منتهى الجموع، وهو الجمع المتناهي في جمعيته، فكأنه الجمع الذي لا جمع بعده، أي: حدائق لا حصر لها، ولا انتهاء لأنواعها، والأعناب تتهادى من كل ناحية وبكل لون وطعم لا ينتهي، والكواعب هن الفتيات الجميلات اللاتي في عمر الظهور، والجمال، والقوة، والدلال، نضارة وجمالًا، ووضاءة، وروعة، ونضجًا جسمانيًا رائعًا، وهن من الكثرة بحيث تذهل العاقل، وتذهب بِلُبِّ الحليم، والأتراب جمع تِرْبٍ، وهو المساوي، والمماثل في السن، وهو أدعى إلى الالتذاذ، والتشهي، وأقرب إلى الفرحة وعمق السرور حيث التفاهم والتناغم، ولتعلم أنه من الجمال في الجنان تماثل الكواعب مع من خُلِقَ لهنَّ من الرجال، وهو ـ كما قلت ـ مما يزيد في المتعة، ويدفع إلى كمال السعادة، وتمام الانتشاء، وشمول الفرحة، وعموم الابتهاج، والكأس منكَّر كذلك، أيْ: أنه كأس لا عِدْلَ له، ولا مثيل لما فيه، ولا يمكن تخيُّل جماله، وصنْعته، ناهيك عما فيه من لذيذ الشراب، وجمال اللحظة، ففيه من الأشكال، والألوان، والأحجام ما الله به عليم، والدهاق هو الكأس الممتلئ المفعم، فالكأس الدهاق هي الكأس الملأى، أو المتتابعة على شاربيها، والدهق شدة الضغط، أو متابعة الشدِّ، أو هي الكأس المُفعَمة، يقال: أدهقتُ الكأس، فدهق، أيْ ملأتها فامتلأتْ، وأُفْعِمَتْ، ودَهَقَ لي من المال دهقة، كقولك: قبض قبضة، فملأ ما معي منه، ولا تنسَ في كل ذلك أنك تتمتع بقدرة الله، وفي جِنان ربك. هذا، وقد ارتبطت الآياتُ سبكًا بـ(إن) المؤكِّدة، والبدل، والعطف بالواو التي تفيد عطف الجمل، فبدا سبكًا محكمًا، مترابطًا منسجِمًا، وتبعه الحبكُ، حيث ترابط المجمَل:(مفازًا) مع المفصَّل:(حدائق وأعنابًا، وكواعب أترابًا، وكأسًا دهاقًا)، لقد ارتبط النص ارتباطًا وثيقًا، وأدَّى دورًا ساميًا أنيقًا، كما قامت الصفة:(دهاقًا) مع موصوفها بالربط المحكم، والتناغم القوي: وصلًا، ومعنى، ومعلوم أن الصفة والموصوف التي تعددت في (كواعب أترابًا، وكأسًا دهاقا) عند النحاة كالشيء الواحد من شدة الترابط، وكمال التواصل، وجمال التتابع، وجلال التداخل، وتتابع الأوصاف التي تُسعِد أولئك المتقين، فتأتي جملة:(لا يسمعون فيها لغوًا ولا كذابًا) نعمة الهدوء التي يعيشون فيها بلا تلوث سمعي ولا ألفاظ نابية، وهو وارد بالفعل المضارع الذي يعني سرمدية الهدوء وجمال التعامل ورقي التواصل، وجمعوا في واو جماعة واحدة، أي: أنهم جميعًا يتمتعون بتلك النعمة، وجاء تنكير (لغوًا وكذابًا) ليشمل كل ألوان اللغو، وأنماط الكذب التي كانت في الدنيا، وكانوا يتضررون من أهلها ولا يحبون سماعها لتناقضها مع دينهم، وأخلاقهم، ودخول (لا) النافية، ووجود العطف قد قوى صلة الكلمات ببعضها، وارتباط شبه الجملة:(فيها) بأمِّه، أو بفعله زاد كذلك من كمال الوصال، وجمال التماسك، وجلال الترابط النصي، وكلمة (كذابًا) الأصل فيها (تكذيبًا) لأن فعلها رباعي على وزن (فعَّل)، ولكنها وردت مفسرة لنفسها، فكأنها كذبت على أصل صيغتها، فوضعت (الكِذَّاب) مكان (التكذيب)، أو لأنه أقل الكذب، فهم لا يسمعون أي: لغو، ولو كان قليلًا، ولا يسمعون أي تكذيب، ولو كان يسيرًا، فالآية تحتمل ذلك كله، فمجرد السماع للغو والكذب لا يكون، ومن باب أولى فلا يستمعون إلى مثل تلك الأخلاق المتدنية، ولما كانوا في دنياهم حريصين على الصفاء، وجو النقاء، وطهر اللسان، واختيار جمال اللفظ منحهم الله نعمة الهدوء، وعدم سماع ما يؤذيهم، وشبه الجملة (فيها) يعني أنها هادئة في جميع زواياها، وكل طواياها فهي هادئة في كل نواحيها وضواحيها، فمهما ذهبت فيها ولم تعد ترى من أحد، وظرفت بين لفائفها فإنك لا تسمع فيها أي لغو، ولا أي تكذيب، فقد طهرت في كل مكان فيها من هذا اللغو، وذاك الكذب، ثم جاء السبب، وظهرت العلة، وأن ذلك إنما كان لهم جزاء من ربهم عطاء، ومنحا منه ـ جلَّ جلاله ـ وحسابَا لهم على ما قدمته نفوسهم الطيبة، فارتبط القول الكريم بما قبله ارتباط النتيجة بسببها، فهو حبك رائع، وربط ماتع، وشبه الجملة (من ربك) صفة لقوله:(جزاءً)، فزاد من ارتباطه بموصوفه، واتصاله بمحبوبه، وكل من:(جزاءً، وعطاءً) مفعول من أجله، يبين علة حدوث النعمة، وقوله:(حسابًا) صفة للعطاء، وكل الكلمات يحن بعضها إلى بعض، ويرتبط أولها بآخرها، وتتعانق الكلمات، وما بها من دلالات عناق التآخي،

وتماسك المحبة، وارتباط الفرع بأصله، والجزء بكله، في تناسق بديع، وتألق رفيع، والتنكير في:(عطاءً، وجزاءً، وحسابًا) يبين سعة كل ذلك، وجلاله، وكماله، وتنوعه بصورة يضل معها العقل في التفكير، إذ كيف يحيط عقل مخلوق بعطاء رب عظيم رحيم خالق، يعطي عباده الأتقياء عطاء يتناسب مع حرصهم في دنياهم على تقواه، وخشيته، وتطلب رحماه، واستنزال نعماه؟!، ثم عاد القرآن الكريم، فربط الآيات بعدها بتفسير مفهوم الربوبية الجميل، الواسع، الرحيم، لله رب العالمين:(رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابًا)، فهو رب السموات والأرض جميعا، و(أل) في السموات وفي الأرض جنسية، أي: السموات السبع، وجنس الأرضين السبع، فهو رب ذلك كله، ورب الملك، والملكوت جميعًا، وكلمة (رب) تأتي بدلت من (رب) المتقدمة، فهي مرتبطة بها سبكًا، ثم حبكًا، ودلالة، والتراكيب الإضافية تترابط معا ترابط أصابع اليد الواحدة:(رب السموات والأرض)، والعطف بواو العطف التي جاءت لعطف المفردات قد زاد من كمال الارتباط، وحتى لا يظن ظان أن ثمة شيئًا ما يخرج عن ملك الله، فقال الله تعالى:(وما بينهما) فهو كناية عن شمول الربوبية كل ما في الكون جميعًا:(سموات، وأراضين، وما بين السموات والأرضين)، مما هو معلوم لله، وهو كثير كثير في علم الله، لا نعلمه نحن، بوصفنا بشرًا، لا نعلم إلا ما أعلمَناه الله، ثم تتابع البدل (الرحمن) فهو الرحمن ـ جل جلاله ـ وهي صفة جمال تتناسب، وطبيعة الرحمة الربانية في كل أحيانها، وخصوصا مع أهل الله من المتقين الذين تحدثت عنهم الآيات البينات، وكل ذلك جاء مسبوكًا بكل ألوان السبك اللفظي الذي أدى إلى حبك متداخل، وترابط متشابك، لا يمكنك أن تفصل فيه بين خيوط السبك، وتعانقها مع خيوط الحبك، في منظر مبهج للنفس، والعقل، والفكر، والوجدان الذي يتعايش مع الآيات، ويبكي مع جلالها، ويهيم مع جمالها، ويرتجف من كمالها، وجملة:(لا يملكون منه خطابًا) كناية عن كمال الجلال، وجمال الكمال، فهو الله، مالك الملك، القوي، المقتدر، القادر، القدير، وهو صاحب كل شيء العالم بكل شيء، القادر على كل شيء، فكيف يملكون منه خطابا إلا بإذنه؟!، كما قال عز وحل:(.. لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابًا)، وكما قال سبحانه:(وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همسًا) وقال أهل التفسير: ليس الهمس عن كلام خافت، وإنما هو صوت وقع أقدامهم، فلا يتنفس منهم أحد، ولا يجوز أن ينبس إنسان ببنت شفة، إلا إذا أذن له الرحمن، ورضي له قولًا، فالجميع لا يتكلمون مهما علت مناصبهم، أو ارتفعت منازلهم، وجملة:(لا يملكون منه خطابًا) حال من (الرحمن) وقد ارتبطت مع ما قبلها برباط الود، وتجاذبًا بإشعاع قوي تداخلت الكلمات معه تداخلا عجيبا، والحال تبين هيئة حدوث فعلها، وشبه الجملة:(منه) زاد من ذلك التماسك، فهو تعلق بالفعل (يملك)، و(خطابًا) مفعوله، والمفعول مع فعله كالشيء الواحد، لا ينفك عنه، ولا يمكنه أن يبين منه، لكن متى يكون ذلك؟ تولَّت الآية بعدها الجواب عنه، تلك الآية التي تبدأ بالظرف:(يوم)، يقول تعالى:(يوم يقوم الروح والملائكة صفًّا لا يتكلمون)، فقد ارتبط الظرف بمظروفه سبكًا، وبمعناه ودلالته حبكًا، ثم ارتبط المضاف بالمضاف إليه، وهو جملة:(يقوم الروح والملائكة)، وما فيها من عطف ماسك، وربط بين الكلمات، وآخى بينها، وعطف العام على الخاص هنا (الروح والملائكة) لبيان قيمة، ومنزلة الخاص، وهو سيدنا جبريل ـ عليه السلام.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية

[email protected]