محمود عدلي الشريف:
توقف بنا الحديث ـ إخوة الإيمان والإسلام ـ عند خروج رسول الله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ قاصدًا مكة ليحج الحجة الوحيدة التي كانت بعد بعثته (صلى الله عليه وسلم)، وهي التي تسمى حجة الوداع، والجدير بالذكر (أن عبد الله بن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ كان يكره أن يقال حجة الوداع ويقول حجة الْإِسْلَام) ذكره (ابن سعد في "الطبقات الكبرى" ط: العلمية 2/ 131).

ولما نوى الحبيب أن يخرج للحج تجهز معنويًا وماديا، ولما استعد هو ومن معه والجميع على أهبة الاستعداد توكل (صلى الله عليه وسلم) على مولاه ومضى يسير المنازل ويؤم أصحابه فِي الصلوات فِي مساجد لَهُ قد بناها النّاس وعرفوا مواضعها، وكان يوم الإثنين بمر الظهران فغربت لَهُ الشمس بسرف ثُمَّ أصبح فاغتسل ودخل مكّة نهارًا، وهو عَلَى راحلته القصواء. فدخل من أعلى مكّة من كداء حتى انتهى إلى باب بني شيبة، فلما رَأَى البيت رفع يديه، فَقَالَ:(اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة، وزد من عظمه ممن حجه واعتمره تشريفًا وتكريمًا ومهابة وتعظيمًا وبرًّا!)، ثُمَّ بدأ فطاف بالبيت ورمل ثلاثة أشواط من الحجر إلى الحجر، وهو مضطبع بردائه، ثُمَّ صلى خلف المقام ركعتين، ثُمَّ سعى بين الصفا والمروة عَلَى راحلته من فوره ذَلِكَ، وكان قد اضطرب بالأبطح فرجع إلى منزله، فلما كَانَ قبل يوم التروية بيوم خطب بمكة بعد الظهر، ثُمَّ خرج يوم التروية إلى منى فبات بها، ثُمَّ غدا إلى عرفات فوقف بالهضاب من عرفات، وَقَالَ:(كل عرفة موقف إلا بطن عرنة")، فوقف علَى راحلته يدعو، فلما غربت الشمس دفع فجعل يسير العنق، فإذا وجد فجوة نص حتى جاء المزدلفة، فنزل قريبًا من النار فصلى المغرب والعشاء بأذان وإقامتين ثُمَّ بات بها، فلما كَانَ فِي السحر أَذِن لأهل الضعف من الذرية والنساء أن يأتوا منى قبل حطمة النّاس، قَالَ ابن عَبَّاس:(وجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبني لا ترموا حتى تطلع الشمس) يعني: جمرة العقبة، فلما برق الفجر صلى نبي اللَّه (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الصُّبْحَ ثُمَّ ركب راحلته فوقف عَلَى قزح، وقال: كل المزدلفة موقف إلا بطن محسر) (الدر المنثور في التفسير في المأثور، ج1، ص: 124)، ثُمَّ دفع قبل طلوع الشمس، فلما بلغ إلى محسر أوضع ولم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، ثُمَّ نحر الهدي وحلق رأسه وأخذ من شاربه وعارضيه وقلم أظفاره وأمر بشعره وأظفاره أن تدفن، ثُمَّ أصاب الطيب ولبس القميص ونادى مناديه بمنى: إنها أيام أكل وشرب) (السنن الكبرى للبيهقي 4 /298)، وكذا (فتح الباري لابن حجر 2/ 459)، ويقول ابن سعد في (الطبقات الكبرى، ط: العلمية 2/ 132)، و(صلى الله عليه وسلم) جعل يرمي الجمار فِي كل يوم عند زوال الشمس بمثل حصى الخذف، ثُمَّ خطب الغد من يوم النحر بعد الظهر عَلَى ناقته القصواء، ثُمَّ صدر يوم الصدر الآخر وَقَالَ (صلى الله عليه وسلم):(إنما هن ثلاث يقيمهن المهاجر بعد الصدر) يعني بمكة، ثُمَّ ودع البيت وانصرف راجعًا إلى المدينة (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).

وإليكم ـ قرائي الكرام ـ بعضًا من الروايات التي تضمنت إفراده (صلى الله عليه وسلم) أو إقرانه بالحج والعمرة:(عن بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُحَدِّثُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يُلَبِّي بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا، قَالَ فَحَدَّثْتُ بِذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ، قَالَ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَبَّى بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، قَالَ: فَلَقِيتُ أَنَسًا فَحَدَّثْتُهُ بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَ أَنَسٌ: مَا يَعُدُّونَنَا إِلا كَالصِّبْيَانِ! سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يقول: لبيك عمرة وحجًا مَعًا)، و(عَنْ عَائِشَةَ أنها قالت: خرجنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عَلَى ثَلاثَةِ أَنْوَاعٍ: مِنَّا مَنْ قَرَنَ بَيْنَ عُمْرَةٍ وَحَجٍّ. وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ. وَمِنَّا من هَلَّ بِعُمْرَةٍ. فَأَمَّا مَنْ قَرَنَ بَيْنَ عُمْرَةٍ وَحَجٍّ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ حَتَّى يَقْضِيَ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا. وَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَإِنَّهُ لا يَحِلُّ مِمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَقْضِيَ الْمَنَاسِكَ. وَمَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فَإِنَّهُ إِذَا طَافَ وَسَعَى حَلَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى يَسْتَقْبِلَ الْحَجَّ)، و(عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ صَرَّحَ بِهِمَا جَمِيعًا)، و(عَنْ أَنَسٍ قَالَ: لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ)، و(عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا ثُمَّ صَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، فَلَمَّا انْبَعَثَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ سَبَّحَ وَكَبَّرَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ، قَالَ: فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ أَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَحِلُّوا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ وَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ سَبْعَ بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا، وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ)، و(عَنِ السَّدُوسِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَأَصْحَابُهُ لِصُبْحِ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنْ يَجْعَلُوهَا عَمْرَةً إِلا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ، قَالَ: فَلُبِسَتِ الْقُمُصُ وَسُطِعَتِ الْمَجَامِرُ وَنُكِحَتِ النِّسَاءُ)، و(عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ لأَرْبَعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، فَلَمَّا طُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، قَالَ رَسُولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم: اجْعَلُوهَا عُمْرَةً إِلا مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ) (صحيح مسلم، كتاب الحج 120)، (فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ. فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ طَافُوا وَلَمْ يَطُوفُوا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ)، و(روي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ بِالْحَجِّ فَقَدِمَ لأَرْبَعٍ مَضَيْنَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَصَلَّى بِنَا الصُّبْحَ بِالْبَطْحَاءِ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَجْعَلْهَا)، و(عنْ أَبِي وَهْبٍ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ سُئِلَ: كَيْفَ حَجَّ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَنْ حَجَّ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ؟ فَقَالَ: حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ وَمَنْ حَجَّ مَعَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ مَعَهُمُ النِّسَاءُ وَالْوِلْدَانُ. قَالَ مَكْحُولٌ: تَمَتَّعُوا بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَحَلُّوا فَأُحِلَّ لَهُمْ مَا يَحِلُّ لِلْحَلالِ مِنَ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ) (الطبقات الكبرى، ط: العلمية 2/ 134 مرجع سابق).

وهيا بنا ـ إخواني الكرام ـ نرددها مع رسولنا الكريم وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا جميعًا نرددها بين يدي الكعبة المشرفة .. اللهم آمين، (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ أَنَّهُ قَالَ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ! لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ! لَبَّيْكَ إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ لا شَرِيكَ لَكَ) (سنن ابن ماجه برقم 2890)، و(عن أنس ـ رضي الله تعالى عنه ـ قال: كانت تلبية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: لبّيك حجًّا حقًّا تعبّدًا ورقًّا)، و(عند الإمام أحمد، والنسائي، والبيهقي عن أبي هريرة، أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال في تلبيته: لبّيك إله الحقّ لبّيك) (مسند أحمد 2/ 341، وسنن النسائي 5/ 115، وسنن البيهقي 5/ 45)، و(روى الطبراني في "الكبير" 4/ 99): عن خزيمة بن ثابت ـ رضي الله تعالى عنه:(كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ إذا فرغ من تلبيته، سأل الله عز وجل مغفرته ورضوانه واستعتقه من النار، وأمرهم (صلى الله عليه وسلم) بأمر الله تعالى بأن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج) .. نسأل الله أن نلبي ونطوف جميعًا.

.. ولأوصاف حجه (صلى الله عليه وسلم) بقية.

[email protected]*