محمود عدلي الشريف :
توقف بنا الحديث ـ إخواني الكرام ـ عندما أمر رسول الله ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ أصحابه بالتلبية، كما (روى الإمام أحمد 4/ 55، 56): عن السائب بن خلاد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال:(أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتّلبية، وقال: يا محمد كن عجاجا ثجاجًا) (رواه الطبراني وغيره)، ومن نوادر ما كان معه (صلى الله عليه وسلم) كما ذكر صاحب (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 8/ 459):(سار ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى إذا نزل بالعرج، وكانت زاملته وزاملة أبي بكر واحدة، وكانت مع غلام لأبي بكر، فجلس رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر إلى جانبه وعائشة إلى جانبه الآخر، وأسماء بنت أبي بكر إلى جانبه وأبو بكر ينتظر الغلام أن يطلع عليه فطلع وليس معه البعير، فقال: أين بعيرك؟ فقال: أضللته البارحة، فقال أبو بكر، وكان فيه حدة: بعير واحد تضلّه، فطفق يضرب الغلام بالسوط، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتبسم ويقول: “انظروا إلى هذا المحرم ما يصنع؟”،وما يزيد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن يقول ذلك ويتبسم جعل أبو بكر يغتاظ على الغلام، فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلّم: هوّن عليك يا أبا بكر، فإن الأمر ليس إليك، ولا إلينا معك، وقد كان الغلام حريصًا على ألا يضل بعيره، وهذا خلف مما كان معه فأقبل صفوان بن المعطل ـ رضي الله تعالى عنه ـ وكان على ساقة الناس، والبعير معه، وعليه الزاملة، فجاء حتى أناخ على باب منزل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأبي بكر: متاعك؟، فقال: ما فقدت شيئًا إلا قعبًا كنا نشرب فيه، فقال الغلام: هذا القعب معي، فقال أبو بكر لصفوان: أدّى الله عنك الأمانة، وجاء سعد بن عبادة، وابنه قيس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ ومعهما زاملة تحمل زادا يؤمّان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فوجدا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ واقفا بباب منزله، قد رد الله عز وجل عليه زاملته، فقال سعد يا رسول الله: بلغنا أن زاملتك ضلت الغداة، وهذه زاملة مكانها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلّم): قد جاء الله بزاملتنا، فارجعا بزاملتكما بارك الله فيكما)، و(روى الطبراني عن ابن عمر ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ودخلنا معه من باب عبد مناف، وهو الذي تسميه الناس: باب بني شيبة) (رواه: الطبراني في الأوسط انظر المجمع 3/ 238)، وفي (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 8/ 462، مرجع سابق):(طاف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في حجته بالبيت على ناقته الجدعاء، وعبد الله ابن أم مكتوم آخذ بخطامها يرتجز فقالا، واللفظ لابن كثير، إن حجة الوداع كان فيها ثلاثة أطواف، هذا الأول، والثاني طواف الإفاضة، وهو طواف الفرض وكان يوم النحر، والثالث: طواف الوداع فلعل ركوبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان في أحد الأخيرين، أو في كليهما، فأما الأول: وهو طواف القدوم فكان ماشيا فيه)، ومن رحمته (عليه الصلاة والسلام) (فلما حاذى ـ صلى الله عليه وسلّم ـ الحجر الأول استلمه، ولم يزاحم عليه قلت: وقال لعمر: يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر تؤذي الضعيف إن وجدت خلوة فاستلمه، وإلا فاستقبله وهلّل وكبّر) (رواه الإمام أحمد 1/ 28 وغيره)، (ولم يتقدم عنه إلى جهة الركن اليماني، ولم يرفع يديه، ولم يقل: نويت بطوافي هذا الأسبوع، كذا وكذا ولا افتتحه بالتكبير، كما يكبر للصلاة كما يفعله من لا علم عنده، بل هو من البدع المنكرات، ولا حاذى الحجر الأسود بجميع يديه، ثم انفتل عنه وجعله على شقه، بل واستقبله، واستلمه، ثم أخذ على يمينه وجعل البيت على يساره ولم يدع عند الباب بدعاء، ولا تحت الميزاب، ولا عند ظهر الكعبة وأركانها ولا وقت الطواف ذكرًا معينًا، لا بفعله ولا تعليمه، بل حفظ عنه بين الركنين رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ)، و(رمّل ـ صلى الله عليه وسلّم ـ في طوافه هذا الثلاثة الأشواط، الأول قلت: من الحجر إلى الحجر، كان يسرع مشيه، ويقارب بين خطاه واضطبع بردائه فجعله على أحد كتفيه، وأبدى كتفه الآخر، ومنكبه، وكلما حاذى الحجر الأسود أشار إليه واستلمه بمحجنه وقبّل المحجن، وهو عصا محنيّة الرأس) (سبل الهدى والرشاد، مرجع سابق 8/ 463)، ومن رحمته ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما (روى الإمام أحمد، والطبراني، عن حبيبة بنت أبي تجراة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت:(رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطوف بين الصفا والمروة، والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى، حتى أرى ركبتيه من شدة السّعي، يدور به إزاره وهو يقول: اسعوا فإن الله عز وجل كتب عليكم السعي)، وفي الكبير قال:(ولقد رأيته من شدة السعي يدور الإزار حول بطنه وفخذيه حتى رأيت بياض فخذيه)، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا وصل إلى المروة رقي عليها واستقبل البيت وكبّر الله ووحدّه وفعل كما فعل على الصفا، فلما أكمل سعيه عند المروة أمر كلّ من لا هدي معه أن يحل حتمًا ولا بد قارنًا كان أو مفردًا، وأمرهم أن يحلّوا الحلّ كله، فحلّ الناس كلهم إلا النبي (صلى الله عليه وسلم) ومن كان معه هدي، ومنهم أبو بكر وعمر، وطلحة والزبير، قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي، ولجعلتها عمرة، أما نساؤه فأحللن وكن قارنات إلا عائشة فإنها لم تحل من أجل تعذر الحل عليها بحيضتها، وفاطمة حلت، لأنها لم يكن معها هدي، وعلي لم يحلّ من أجل هديه، وأمر من أهلّ بإهلال كإهلاله ـ صلى الله عليه وسلّم ـ أن يقيم على إحرامه، إن كان معه هدي، وأن يحل من لم يكن معه هدي، وسار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل يوم التروية بيوم، وفي حديث ابن عباس قال:(غدا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم عرفة من منى، فلما انبعثت به راحلته وعليها قطيفة قد اشتريت بأربعة دراهم، قال: اللهم اجعله حجًا مبرورًا، لا رياء فيه ولا سمعة) (رواه الطبراني بسند جيد)، وفي حديث جابر:(ولا تشك قريش إلا أنه واقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في الجاهلية، فسار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أتى نمرة، فوجد القبّة قد ضربت له هناك بأمره فنزل فيها، حتى إذا زالت الشمس أمر بناقته القصواء فرحلت له فأتى بطن الوادي من أرض عرفة) (سبل الهدى والرشاد، مرجع سابق 8/ 468)، قال ابن سعد: فوقف بالهضبات من عرفات وقال: كلّ عرفة موقف إلا بطن عرنة أي: بالنون، قال ابن تيمية: وهو يعني بطن عرنة وادي من حدود عرفة. فخطب الناس قبل الصلاة على راحلته خطبة عظيمة، ونص الخطبة:(أما بعد الحمد لله، والثناء عليه، أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا، في بلدكم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلّغت، فمن كانت عنده أمانة فليردها لمن ائتمنه عليها، ألا إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدميّ، وإن أول دمائكم أضع، وفي رواية: وإن أول دم أضع من دمائنا دم ربيعة، وفي رواية: دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعا في بني سعد بن بكر فقتلته هذيل) (الطبقات الكبرى، ط: العلمية 2/ 137). سيدي يا رسول الله.. نعم بلغت وأديت ووفيت .. فجزاك الله خير ما جزى نبيًا عن أمته ورسولًا عن قومه.