د. أحمد مصطفى أحمد:
هناك بحر هائل من التعليقات والتحليلات والآراء حول الانسحاب الأميركي من أفغانستان، ومعه انسحاب قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو) من ذلك البلد الآسيوي الذي يشهد صراعا دمويا منذ نحو أربعة عقود. لم يكن التدخل العسكري الأميركي في أفغانستان بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 على نيويورك وواشنطن، بل بدأ قبل ذلك بنحو عقدين ولو بشكل غير مباشر بمساعدة الولايات المتحدة من سموا وقتها "المجاهدين العرب" الذين اصطفوا مع طالبان لمحاربة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. خرج السوفييت (الروس بعد ذلك) من أفغانستان وتحول "المجاهدون" إلى إرهابيين (تنظيم القاعدة) تأويهم طالبان. ومع هجمات سبتمبر التي أعلن تنظيم القاعدة مسؤوليته عنها، هجمت الولايات المتحدة ومعها حلفاء "مكافحة الإرهاب" من حلف الناتو على أفغانستان لتطيح بحكم طالبان وتنصب حكومة موالية لها. لكن تلك الحكومات المتعاقبة لم تتمكن من البقاء وحدها دون الوجود العسكري الأميركي والغربي، الذي ظل هدفه "القضاء على تنظيم القاعدة وحركة طالبان".
لم ينتهِ تنظيم القاعدة، وها هي حركة طالبان تعود لاعبا رئيسيا في أفغانستان. لكن ذلك ليس مهمًّا، فالهدف الأميركي بشن حروب خارجية تعلن فيها الانتصارات و"القضاء على الإرهاب" من القاعدة وطالبان إلى غزو واحتلال العراق ثم ضد "داعش" مؤخرا تحقق أهدافا أخرى للمصلحة الأميركية التي ليست بالضرورة متقاطعة مع مصالح الدول التي تغزوها وتحتلها أو حتى القوى الإقليمية المتضررة أو المستفيدة من تلك الحروب. لكن مع الفترة الثانية من حكم الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش اعتمدت واشنطن استراتيجية فك ارتباط تدريجي مع العالم وترسية حماية مصالحها على وكلاء محليين في المناطق الساخنة. لكن ظلت أفغانستان والعراق تحديدا ساحة لوجود عسكري أميركي كبير. ومنذ فترتي رئاسة باراك أوباما، يجري الترتيب لانسحاب القوات الأميركية من المنطقة. والسبب الرئيسي المعلن هو كلفة ذلك الوجود العسكري التي تقدر بالمليارات سنويا. لكن الحقيقة، أن ذلك الوجود لم يعد يخدم أهدافا مهمة، ولكنه استنزاف طويل الأمد بغير عائد استثماري. ففي الولايات المتحدة، يكون الحساب دائما على أساس "العائد على الاستثمار". طبعا يأتي العائد المادي في المقدمة، وأيضا العائد الاستراتيجي؛ أي النفوذ والسيطرة التي يمكن تحويلها إلى مكاسب مادية مباشرة وغير مباشرة.
أغلب التعليقات والتحليلات الآن أن إدارة الرئيس جو بايدن إنما تخاطر بالانسحاب العسكري من أفغانستان والعراق. والحجج التي تساق أن ذلك سيفتح الباب أمام الصين التي تَعدها واشنطن منافستها الرئيسية في العالم الآن، وأن عودة الإرهاب واردة مع زيادة نفوذ طالبان والقاعدة وداعش في البلدين المحتلين سابقا. لكن كل ذلك ينطلق من فرضية أن بايدن هو من قرر ذلك الانسحاب فجأة عكس الاستراتيجية الأميركية طويلة الأمد. وذلك غير صحيح، فقد كاد سلفه الرئيس السابق دونالد ترامب أن يفعل ذلك. وكل ما فعله بايدن أنه حسم الأمر بسرعة. أما عن عودة الإرهاب، فهو لم ينتهِ أصلا، ويدرك الأميركيون أنه لن ينتهي حتى لو ظلت قواتهم في أفغانستان والعراق إلى الأبد. ولا نريد الذهاب إلى تفسيرات المؤامرة التي ترى أن وجود الإرهاب المتسربل بالدين في المنطقة هو مصلحة أميركية، وإسرائيلية أيضا، في المقام الأول حتى لو كانوا يستفيدون منه ويوظفونه لصالحهم. أما أن ذلك الانسحاب ليس في مصلحة أفغانستان والعراق، ويعطي رسالة سلبية لحلفاء أميركا في المنطقة، فذلك غير مطروح للنقاش. فالعامل الأساسي هو المصلحة الأميركية بغضِّ النظر عمن يتضرر ومن يستفيد.
أما المصلحة الأميركية فقد تحققت بالفعل، وما يتصور البعض أنه خسائر في صورة كلفة الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان والعراق هو استثمار في الأمن كان مردوده جيدا جدا. فمقابل بضعة مليارات سنوية من ميزانية البنتاجون (وزارة الدفاع الأميركية) أنشأت الولايات المتحدة قطاعا اقتصاديا هائلا هو "الاستثمار الأمني" يقارب حجمه ثمن الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وبالنسبة للولايات المتحدة وحدها، باعتبارها أكبر اقتصاد في العالم، يزيد حجم قطاع الأمن الآن عن سبعة تريليونات دولار. ولا يمكن أن تحصي عدد شركات الأمن والمتعاقدين المدنيين مع البنتاجون الذين استفادوا من عقود بالمليارات من العمل في أفغانستان والعراق. ولك أن تتخيل كمية الثروات التي تراكمت نتيجة إنشاء تلك الشركات ونشاطها على مدى العقدين الأخيرين. وبالطبع، كان ذلك أساسا لعملها في مناطق أخرى والفوز بعقود غير أميركية. أضف إلى ذلك عائدات مادية غير مباشرة من عمليات التهريب وعائدات المخدرات التي لم تكن بعيدة عن الأجهزة الأمنية الأميركية وغيرها من المتواجدين في أفغانستان.
لم يعد الوجود العسكري ضروريا في المنطقة فقد تأسست تلك الشركات وترسخت في السوق، الأميركي والعالمي، وأصبح الاستثمار الأمني الآن من الضخامة حتى أن البعض طرح مؤخرا أن تترك إدارة حروب كاملة للمتعاقدين من خارج الجيوش النظامية. هذا الرأسمال الهائل لقطاع الاستثمار الأمني، وإن كان أصبح جزءا من الاقتصاد العالمي إلا أن أغلبه أميركي. وهو مكسب مادي واستراتيجي يستحق ما أنفق عليه وأكثر أضعافا مضاعفة. دعونا من مسألة "نصر عسكري"، فهذا أمر غير وارد بشكل حاسم في صراع جيوش نظامية مع ميليشيات. لكن الهدف الاستراتيجي للتدخل الأميركي تحقق إلى حد كبير.