د. رقية بنت إسماعيل الظاهرية:
منذُ بدء التاريخ تعرَّضت الأُنثى لشتَّى أنواع التَّمييز حتَّى جاء دينُنا الحنيف حاميًا ونصيرًا، ولكنَّ واقعنا مختلف؛ فهناك ذبذبة في منظورنا الشَّعبي أمام صورة المرأة، هي نفسها الثقافة التي تقدِّس الأُمَّهات، وتجعل منهن تاجًا على رؤوسنا، هي نفسها التي تطمر خلفة البنات بقسوة، فتجعلك في حَيْرة من أمْرِك. من يصدق بأنَّنا ما زلنا في العصر الحديث، ورغم تطوُّر الحضارة والمدنيَّة ومواثيق حقوق الإنسان، وهيئات الدفاع عن حقوق المرأة، لا تزال عقلية الجاهلية تعشش لدى البعض ووأْد البنات اتَّخذ شكلًا آخر، حيث ردهات صالات الولادة تسرد قصصًا مريرة، وتبثُّ الحسْرةَ في الأنْفُس.

لا تهتمُّ بمراجعاتها الصحيَّة، ولا تأتي لمواعيد المراجعات، غير مكترثة، ويوم الولادة رفضت العمليَّة القيصريَّة بالرغم من خطورة الوضع على الجنين، حاول الطاقم أنْ يقنعها ولكنَّها لم تكُنْ مباليةً بالرغم من محاولة إقناعها بأنَّنا سنفقده ولكنَّها لم تستجبْ. لحُسْن الحظِّ لفظنا أنفاسنا لحضور الزَّوج وتفاءلنا به ليُوقِّع أوراق العمليَّة العاجلة، ولكنَّ الصَّدمة أنَّه أيضًا لم يُبدِ أي تعاطف، ولم يكُنْ مكترثًا حتى لو فقدنا الجنين، فالوقت يُداهمنا ودقَّات قَلْب الجنين تتباطأ، الحالة حرجة، وهناك روح ستُزهق، مؤلم حقًّا. كيف لقَلْبَيْنِ أنْ يحملا هذا الكمَّ من القسوة التي تنسلخ الجُلود لشدَّتها وسط تعجُّب وحَيْرة الكادر، إلى أنْ عرفنا الواقع المُوجع بأنَّ هذا الحمل السادس للأُم وستُنجب مولودةً أُنثى وقد سَئِمَت من خلفة البنات والزَّوج ينتظر أنْ تُنجب له الولد الذي طالما انتظره ليخلِّد اسمه، كلاهما يشعر بخَيْبةٍ من خلفة البنات، ونحن نشعر بحُرقة وغضَب وخَيْبات لهذه الروح المعلَّقة، وكيف سنقِفُ مكتوفي الأيدي ونحن نرى وأْدَ البنات يُمارس في عصرنا باسْمِ القانون، ولكنْ ترجَّلت إحدى المُمرِّضات المُخضرمات، وما أدراك ما هي قُوَّة المُمرِّضات، كانت غاضبةً بشدَّة، دخلت على الزَّوج والزَّوجة، وخلال دقائق أتَتْ بالموافقة على العمليَّة، ولا أعلم أي أسلوب استخدمت، ولكنِّي أعلم جيدًا أنَّ المُمرِّضات عظيمات وإنسانيَّات في مهنتهنَّ إلى أبعد الحدود، ومن شدَّة تعاطفها قرَّرت أنْ تحضر العمليَّة لتكُونَ أوَّل مَنْ يحتضنُ هذه الطفلة البريئة القادمة إلى هذا العالم، وغير المُرحَّب بها من أقرب النَّاس، ولكنَّ المفاجأة بأنَّ المولودَ كان ذكرًا، وأخْطأَ السونار في تقدير جِنْس الجنين، خرجتِ المُمرِّضة وقَدِ ازدادت غَضبًا وسخطًا، ولم تُخبر الأب بجِنْس المولود، رمقَتْهُ بنظرةٍ وهي تُتَمْتمُ في داخلها بأنَّه لا يستحقُّ الأُبوَّة بجميع أشكالها.

وفي قِسْم الأورام تَتعالَجُ امرأةٌ أخرى لطالما كانت تتردَّد على عيادة الحوامل لسنوات، هي نَفْسُها المريضة التي تجرَّعت مرارة الخَيْبات من خلفة البنات، وقد ظلَّت تُنجب لزوجها، قضَتْ سنوات من الترقُّب والقلَق، وتحمَّلت مشقَّة الحمْل ومضاعفاته، ولكنَّها أنجبت تسع بنات، حاولت تُغيِّر قدَرها بولَدٍ يحمل اسْمَه، ولكنَّ هاجس الزَّواج بأُخرى كان يلُوحُ بالأُفق، بالرَّغم من أنَّه مُثبتٌ طبيًّا أنَّ تحديد جِنْس الجنين بيولوجيًّا يعود للرَّجل ولا دَخْلَ للمرأة فيه، بالنِّهاية تزوَّج عليها ليحصل على الابن الذي حلم به طيلة حياته، وتعيش هي حزنًا يقتل شغف حياتها بيأسٍ وقُنوطٍ، وبعدها تُصابُ بسرطان، وتُعاني من أسًى كبير وانكسار على عدم إنجاب ذكور. وبالرَّغم من هذا كُلِّه كانت في قِسْم السرطان وحواليها بناتها يعتنين بها ويُشاطرنها وجَعَها، ويحملن حزنها، ورغم ذلك ما زالت تشعر بالغصَّة من خلفة البنات.

أيُّها الإنسان تذكَّر: لا شيء سيُخلِّد اسمك وذكراك غير العمل الصالح الذي سيبقى امتدادًا لك من بعدك، وأيضًا اللحظات التي تعيشها مع عائلتك وأبنائك، سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، لتدفئ روحك بشحنات كافية من مَحبَّتهم في زمن احتدَّ فيه الصقيع.

تذكَّر: حياتنا قصيرة، وقد تكون من المحظوظين الذين منحهم القدَر فرصة الأُبوَّة، فعِشْها بكُلِّ ما فيها من أفراح وأتراح وصَبْر ومَحبَّة وتَعَب وكفاح.. صدِّقني لا يعرف قيمتها إلَّا من حُرم منها، ولا تجعل قَلْبك يقسم إلى نصفَيْن بَيْن البنين والبنات، تملأ أحدهما فيفرغ الآخر، بل وزِّع مَحبَّتهم بالتَّساوي بَيْن ثنايا روحك.