سعود بن علي الحارثي:
من أولويات الحكومات والأنظمة السياسية، ممثلة بأذرعها وتشكيلاتها المتفرعة، من جهات وهيئات ومؤسسات موكل إليها مسؤولية تسيير والإشراف على الخدمات الأساسية والأعمال المرتبطة بمصالح المواطنين ومتطلبات معيشتهم الضرورية، والنهوض والعناية بها وإيلائها كامل الاهتمام، وتقديم المبادرات والأفكار، وتنفيذ الرؤى والبرامج، والاشتغال بكل جهد وتفانٍ لتعظيم المنجز في شموليته وتكامله، والاستفادة من الخبرات العالمية الناجحة، وإدخال الأدوات والوسائل العصرية التي من شأنها تطوير الخدمات ورفع جودتها باستمرار، واستقطاب التقنيات المتطورة لتحسين كفاءة استخدام الموارد، وتعديل وتطوير الهياكل الإدارية ومعالجة تضخمها وترهلاتها، وتحديث النظم والقوانين التي تضبط الإنفاق وتقلل من الهدر، وتحاصر كل أشكال وأوجه الفساد، ومواصلة الرصد القارئ والكاشف لمستوى ودرجة رضا المستفيد من الخدمة والاستماع للشكاوى والمقترحات والملاحظات المقدمة من قبله... وهذه كذلك خطوات أساسية لا غنى عليها يجب أن تسبق السياسات والقرارات التنفيذية التي تقرها الحكومات تمهيدا لخصخصة أي قطاع تابع لها معني بتقديم خدمة أساسية للمجتمع، وذلك بغية التيسير على المواطنين بضبط وتجويد الخدمات ورفع كفاءتها أولا، وضمان نموها وتطورها بما يواكب التوسع والعصرنة والحداثة والتقدم، وتخفيض تكلفة الخدمة ـ أيا كان نوعها ـ ثانيا، والتي يدفع فاتورتها المواطن كل شهر وتشكل عبئا كبيرا على دخله، ولا يمكن العيش بدونها بأي حال من الأحوال في العصر الحديث.

ولو أخذنا مثالا على ذلك خدمة الكهرباء التي تُعد الأهم والأعظم من حيث ارتباطها الوثيق بأساسيات الحياة، والطاقة التي تحرك وتدير وتشغل كل جهاز وآلة ومكينة وبرنامج ووسيلة في المشفى والمنزل والمكتب والشركة والمحل والمجمع التجاري... وبدونها تتعطل مسيرة الإنسان وتتوقف رحلته نحو المستقبل، وتنهار أعماله ومشاريعه وخططه وتطلعاته... إلا إذا قدمت الحكومات خيارات أخرى وأنواعا متعدِّدة من الطاقة تحلُّ محلَّ الكهرباء في كفاءتها وقدرتها على تشغيل كل ما يحتاج إليه ويحقق له استمرارية الحياة على ما هي عليه، وتكلفة استهلاك خدمة الكهرباء مرتفعة جدا على العمانيين، وتستنزف نسبة عالية من الدخل، وتجعل ربَّ الأُسرة ومعيلها وأفرادها في حالة ضغط مستمر، قد تصل إلى نشوب خلافات وتضعضع وتمزق لأساسات استقرارها بسبب ارتفاع قيمة الفاتورة، خصوصا في فترة الصيف القائظ التي تمتد لأكثر من خمسة أشهر ملتهبة كحدٍّ أقصى، ولا تستغني فيها البيوت عن المكيف الذي يقود إلى قفزة عالية في استهلاك الكهرباء، فمن يستطيع اليوم العيش في المنازل المسلحة والغرف المغلقة والمناطق السكنية التي تفتقد إلى التشجير والحدائق والبساتين وجماليات الطبيعة وجداول المياه... التي تلطف الأجواء، بدون جهاز تبريد في طقس تتعدى حرارته الأربعين درجة؟ وكم من المكيفات التي تواصل هديرها ليلا ونهارا؟ وكم متوسط عدد أفراد الأسرة من ذوي الدخل المتوسط والضعيف، في المنزل الواحد الذين يعيشون على دخل المعيل؟ وكم متوسط تكلفة فاتورة الكهرباء في أشهر الصيف الحارقة؟ وكم تمثل نسبتها من مجموع الدخل الكلي؟... وعندما تناقش الجهات المختصة الرؤى والبرامج والتوصيات، وتتخذ السياسات وتنفذ القرارات بشأن خصخصة هذا القطاع الحيوي، والموافقة على تولِّي شركة ما أو مجموعة شركات تأهَّلت على إدارته وإنتاج وتوزيع الكهرباء، ورفع النسبة المحدَّدة للدعم عن المواطنين... فعليها أن تأخذ في الاعتبار كل تلك المحاذير والظروف والأسباب التي استعرضها المقال. لقد نمت واتسعت شكاوى المواطنين من ارتفاع فواتير الكهرباء، خصوصا خلال الثلاث السنوات الأخيرة، وتعدَّدت وتواصلت وارتفعت نبرة الأصوات المتهمة لشركات الكهرباء بالمبالغة في رفع التكلفة التي يعزوها الكثيرون إلى أخطاء مقصودة في الاحتساب، أو مشاكل فنية في أجهزة وعدَّادات الكهرباء، أو إهمال من قِبل قرَّاء هذه العدَّادات تؤدي إلى قراءات خاطئة... وتتعدَّد التُّهم والاعتراضات إلى ضعف التواصل وبطء التعامل مع الشكاوى وانقطاعات الشبكة وتعقيد الإجراءات... فيما تشير النقاشات الواسعة التي يشارك فيها مختصون وخبراء وأعضاء سابقون وحاليون في الشورى وكتَّاب وصحفيون... إلى تضخم شركات الكهرباء وترهلها وزيادة أعدادها في عُمان بشكل يفوق الحاجة الفعلية، وإلى ارتفاع إنفاقها المبالغ فيه بما في ذلك البذخ في رواتب وامتيازات كبار موظفيها، ونمو التكلفة التي يدار بها هذا القطاع وفي صيانة وتوزيع الكهرباء بشكل كبير، ما يُعد هدرا للموارد يدفع ضريبتها المواطن، وقدمت هذه النقاشات والاستضافات أرقاما ومؤشرات وقراءات وتحليلات تعضد هذا الرأي وطالبت بدمج هذه الشركات وإصلاح هياكلها وضبط إنفاقها ومراقبة أدائها ومحاسبة تجاوزاتها ورفع كفاءتها... ولا أزال أذكر أن مجلس الشورى خلال الفترة من 2005– 2016م، خصوصا، كان يخصص بندا ومحورا في تقاريره حول مشروعات الخطط والموازنات ورؤيتي "2020 و2040"، للإشارة إلى مخاوفه من تخصيص قطاع الكهرباء وانعكاساته، على الأداء والكفاءة والإنفاق، وذلك بالدعوة إلى "ضمان الشفافية والعلنية في اتخاذ القرارات وتنفيذ الإجراءات المتعلقة بالتخصيص"، متسائلا عن "أسباب ومبررات الزيادة الكبيرة في الصرف على بند دعم الكهرباء"، مطالبا بـ"مراجعة تكاليف الإنتاج والتوزيع بالنسبة لمختلف الشركات المتعاقدة مع الحكومة وكذلك مراجعة الاتفاقيات المبرمة معها، بالإضافة إلى مراجعة مصروفات الشركات الحكومية العاملة في هذا القطاع، وذلك في إطار دراسة شاملة لتقييم تجربة تخصيص القطاع". وعلى الحكومة أن تأخذ كل هذه الاعتبارات فيما يتعلق برفع الدعم عن الكهرباء، فالمواطن يستطيع أن يخفض مصروفاته في جوانب ترفيهية وكمالية ويقيِّد بعض تنقلاته ويشتري سيارة ذات استهلاك أقل فيما يتعلق بالوقود، وأن يوازن في شراء احتياجاته للسلع والبضائع من السوق، وفقا للخيارات العديدة المتوافرة، ولكن يظل قرار تقليل استهلاك الكهرباء محدودا للغاية، خصوصا في فصل الصيف. لقد تحولت وسائل التواصل إلى مناشدات ومطالبات وأصوات غاضبة ساخطة بسبب الارتفاع الكبير في احتساب تكلفة الكهرباء، ومئات النماذج لفواتير نمت قيمتها بأكثر من 100% مقارنة بذات الفترة، ولم يأتِ تصريح "هيئة تنظيم الخدمات العامة" بجديد ولا معالجات حقيقية وواضحة لشكاوى المواطنين، ولم يقدم إجابة دقيقة على التساؤل المطروح: أين المشكلة، والسبب الحقيقي في ارتفاع فواتير الكهرباء بنسب فاقت المنطق والقدرة على الدفع؟ هل في تفويض شركات الكهرباء بتغيير الشرائح المستهلكة للكهرباء ورفع التسعيرة؟ أم أن هناك أسبابا أخرى؟ إن الظروف الاستثنائية المعروفة التي ألقى بظلالها الكئيبة وباء كورونا، وساعات الحجر وأيامه الطويلة والمتكررة في المنازل، ولأن ارتفاع تسعيرة الوقود والكهرباء قادتا إلى ارتفاع أسعار السلع في السوق وزاد من محن الشركات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة من جهة أخرى، ولأن هذه الفواتير سوف تعجز شريحة من المواطنين عن تسديدها، فينبغي إعادة احتساب قيمة الكهرباء على ما كانت عليه إلى أن يتم إصلاح ودمج وهيكلة شركات الكهرباء، ومراقبة أدائها وضبط إنفاقها وآليات ووسائل وسير عملها فيما يتعلق بقراءة العدَّادات واحتساب التكلفة، ومراعة ظروف المواطنين المشار إليها في هذه الأشهر الصيفية التي أصبح الحظر سمة من سماتها... لقد تم إنهاك المجتمع بهذه الارتفاعات في تكلفة المعيشة التي وصلت إلى كل شيء في مرحلة نعيش فيها في أزمة بسبب سياسات التقاعد وضعف أداء الأعمال والشركات وإفلاس الصغيرة والمتوسطة وتراجع الدخول..