د. رجب بن علي العويسي:
يمثِّل البُعد النَّفْسي اليوم أهم وأخطر الأبعاد التي يجب أن تضعها الجهود الموجهة لمتابعة مستجدات جائحة كورونا (كوفيد19) في أولوية الاهتمام وركيزة العمل، والمنطلق الذي يمكن خلاله العمل على الحدِّ من انتشار الوباء، ذلك أن ما صاحب هذا المرض من تراكمات نفسية ومخاطر سلبية على المدى البعيد كنتاج لعوامل متعدِّدة، يفوق قدرات الدول وإمكاناتها المادية إن لم تعمل على احتوائه وتتجه إلى إدارته، وبالتالي لم يعد البُعد النَّفْسي وما يرتبط به من إدارة المشاعر السلبية، وإعادة هندسة حياة المجتمع لتقبل الواقع والتعايش منه حالة وقتية أو سلوكا استثنائيا لفترة معيَّنة؛ بل خيار استراتيجي يجب أن يوازي الجهود الحكومية التنظيمية والإدارية واللوجستية في احتواء الجائحة وتوفير اللقاح، ويشكل ثنائيا متكاملا مع قطاع الإغاثة والإيواء والإسعاف.

وبالتالي ما يمثله هذا البُعد من أهمية في إيجاد مزيد من التوافقية وروح الانسجام مع القرارات التي تتخذها اللجنة العليا المكلَّفة ببحث آلية التعامل مع التطوُّرات الناتجة عن انتشار فيروس كورونا (كوفيد19) في سبيل الحدِّ من انتشار الوباء أو التقليل من ارتفاع أعداد الإصابات، وتحسين كفاءة عمل المنظومة الصحية في استيعاب الأعداد المتزايدة من المرضى في المؤسسات الصحية أو المرقَّدين في أقسام العناية المركَّزة، وما دام الأمر يرتبط في الأساس بمعطيات نفسية فإن أي قرارات أو توجُّهات تتخذها اللجنة العليا في إدارة الأزمة يجب أن تستحضر هذا المعنى، وتقرأ البُعد النَّفْسي بشكل يضمن تقبل المجتمع للقرارات، والتزامه بالإجراءات بصورة عفوية نابعة من استشعار ذاتي لأهميتها في وقاية المجتمع من هذا الفيروس، ومساعدته في الحدِّ من الأعداد المتزايدة في الإصابات أو الوفيات، ومن جهة أخرى يقلل من الضغط الحاصل على الجهات الأمنية في متابعة ورصد تفاصيل الممارسة اليومية على امتداد السلطنة في التعامل مع هذه الجائحة، نظرا لاستيعاب المواطن والمقيم للواقع الجديد وإدراكه لهذه الظروف، فيعمل جاهدا على أن تكون ممارساته متوافقة مع ما تدعو إليه اللجنة العليا وجهات الاختصاص والتعليمات الصادرة من شرطة عمان السلطانية، ليتجه العمل إلى الأولويات والعمل بروح الفريق الواحد، ورفع درجات التنسيق والتكاملية بين قطاعات المجتمع في استشعار طبيعة الدور القادم الذي يبدأ مع تأصيل المسؤولية الذاتية في القضاء على الممارسات الأخرى خارج القانون، وانتهاك القرارات وتجاوز حدود العمل.

وبالتالي أن يكون المدخل النَّفْسي والذي نعتقد بأن اللجنة العليا عملت على تحقيقه في فترات مبكرة خصوصا فيما يتعلق بـ"لغة الخطاب" الموجَّهة إلى المواطن، والأريحية في القرارات التي اتخذت في الفترة الماضية والتي حملت معها مزيدا من المرونة والمهنية واستشعار ظروف المواطن والأخذ بيده ومساندته في تخطي هذه الجائحة، وفي ظل استمرار هذا الوضع على الرغم من إجراءات المنع والإغلاق الكلِّي والجزئي التي تمَّت في فترات سابقة، وزيادة انتشار الفيروس والسلالات المتمحورة الذي قد يشكل خطرا على استيعاب المنظومة الصحية للوضع الوبائي، تستدعي اليوم التفكير في بدائل أخرى غير الإغلاق الذي قد لا يشكل إلا جزءا يسيرا من المهمة، وتبقى المهمة الأكبر ترجع للفرد نفسه وقناعاته والهاجس الذي يحمله بشأن هذا الفيروس، ودور الجهات المعنية في استنطاق القِيَم، واستنهاض الشعور المجتمعي في الوقاية منه، بما يؤكد الحاجة إلى أن ينتقل مسار العمل في التعامل مع هذا الوباء إلى ترسيخ الوعي الفعلي الذي تتماهى فيه حياة الفرد مع المجتمع، بما يلقي عليه عبئا أكبر ومسؤولية أعظم في الحيلولة دون الخروج عن المألوف من الطباع، والمرغوب من السلوك الذي تدعو إليه اللجنة العليا، فإن تحقيق ذلك لا بُدَّ وأن يكافئه نضجا في قراءة البُعد النَّفْسي، الذي يأخذ في الاعتبار كل المعطيات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والظروف الصعبة التي يمرُّ بها المواطن في ظل إجراءات المنع والإغلاق، بالإضافة إلى استشعار الجانب الروحي المرتبط بالمناسبات الدينية والأعياد التي لا يمارسها المجتمع؛ لكونها مناسبات دينية فحسب، بل باعتبارها جزءا من تفاصيل حياته ومحطة لقراءة التحوُّلات فيها وإعادة هندسة بنائها، ومحطة للتجديد فيها، لتصنع منه إنسانا آخر يدرك عظمة المسؤولية والأمانة الأخلاقية، وواجباته نحو نفسه ومجتمعه في إطار القانون والالتزام بالتعليمات، ولذلك كلما اتجهت القرارات في هذه الشأن إلى احتواء المواطن، وقراءة هذا الشعور بنوع من المهنية والاحترافية، وتوفير البدائل له، وإنتاج الحلول وصناعة الاختيارات والخيارات دون الالتفات إلى ما يثار في منصات التواصل الاجتماعي بدافع الشهرة من أقاويل وأحاديث بحيث يكون القرار مبنيا على أسس واضحة وإحصائيات دقيقة ومراكز استطلاع ورصد، ومسوحات مستمرة، ومراجعات دقيقة، واستثارة للحسِّ النَّفْسي والهاجس الذَّاتي لدى المجتمع مع مراعاة كل المتغيرات والظروف، والتوسع في الخيارات النفسية التي تتيح للمواطن قراءة هذه القرارات في إطار المصلحة المشتركة والاستشعار الجمعي لها، وحضور المواطن في تفاصيل العمل ومنهجيات القرار وإنسانيته، هذا الأمر يأتي في ظل التوسع في الضبطية القانونية التي تعيد هيكلة السلوك، وتنشط حركة التغيير، وتضع كل فرد أمام مسؤوليته في تحمُّل تبعات أي انحراف أو خروج عن المبدأ وقواعد العمل، بما ينعكس على التزامه بالامتناع عن التجمعات، والتباعد الجسدي، ولبس الكمامة، واتباعه العادات الصحية، فيصبح الوعي طريقه للالتزام، والتزامه مساحة تأملية لإنتاج أفضل الممارسات.

ويبقى البُعد النَّفْسي ومشاعر المواطن خيارا استراتيجيا للجنة العليا المكلفة في وضع الإطار النَّفْسي في آليات عملها، وأدوات المواجهة القادمة في إدارة الجائحة، وإعادة إنتاجه بطريقة أكثر نضجا واحترافية تتناغم مع الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها المواطن، بمعنى أن يصبح البُعد النَّفْسي وإدارة المشاعر السلبية للمواطن إحدى المبادرات المهمة في التقليل من تأثيرات كورونا على الوضع العام الاقتصادي والاجتماعي والسياحي والإنساني والصحي بما يعنيه ذلك من الحاجة إلى تبنِّي استراتيجية وطنية في الصحة النفسية وإدارة المشاعر وتقليل تأثير الأفكار والقناعات السلبية بحيث تعمل جنبا إلى جنب مع الأطر والأدوات والاستراتيجيات واللجان الأخرى المنبثقة من عمل اللجنة العليا، وتستهدف قراءة وتحليل الوضع النَّفْسي وردَّات الفعل حول ما يتم اتخاذه من قرارات قادمة بصورة استباقية تعطي مؤشرات واضحة للعمل القادم، وما يعنيه ذلك من التوسع في البدائل والخيارات وإنتاج الحلول المقنعة التي يضعها أهل الاختصاص من الأطباء النَّفْسيين وعلماء النَّفْس والممارسين للصحة النفسية وغيرهم من الكفاءات والقدرات الوطنية في هذا المجال الذين تستعين بهم اللجنة في منظومة القرارات والإجراءات الوقائية والتدابير الاحترازية وأنماط العلاجات المتخذة في التعامل مع كورونا، هذا الأمر من شأنه أن يعزز من الصحة النفسية للمواطن التي يقوى بها على مواجهة الفيروس في كل المراحل والحالات، فتصبح لديه المناعة الذاتية التي تضمن قدرته على فرض واقع جديد يكون فيه منتصرا على الأفكار السلبية التي باتت تشكل الجزء الأكبر من مسبِّبات الوفاة والتخوف من أخذ اللقاح، وفي الوقت نفسه تتيح للمواطن والمُقيم في ظل مراعاة هذه القرارات لجوانب الصحة النفسية وإدراكها لمفهوم أعمق لإنسانية الإنسان وإدارة مشاعرة، أن تضمن شعوره بالتمكين والثقة الذي تدفعه إلى المزيد من الالتزام، ورفع الروح المعنوية لدى المواطن بأن هذا الإغلاق سيكون هو الإغلاق الأخير، وسيقدم نتائج نوعية مذهلة نحو تراجع الحالة الوبائية وانحسارا كليا لها، مدركا بما تبذله اللجنة العليا، مؤمنا بأهمية ما تتخذه من قرارات، فيكون لها السند والقوة في بلوغ الهدف والوصول إلى نتائج مُرْضية تنعكس إيجابا على طمأنينة الفرد وصحته النفسية.

أخيرا، تأتي الحاجة اليوم إلى التأكيد على أهمية البُعد النَّفْسي في إدارة جائحة كورونا، وحضوره بشكل أكثر مهنية وتفصيلا ومعيارية في عمل اللجنة العليا، وأن تشكِّل جملة القرارات الأخيرة المتخذة وردود أفعال المواطنين حولها، محطة لالتقاط الأنفاس في إعادة إنتاج آليات العمل القادم، وتجنيد مختلف خطوط التـأثير الفعلية لترقية حضور البُعد النَّفْسي في القرار، وتنشيط حركة الأفراد ذوي الاختصاص في الصحة النفسية، وإدارة المشاعر، والمستشفيات، ومراكز البحوث النفسية، وتوفير مركز استشعار عن بُعد لخدمة أغراض التعامل مع الجائحة، وفق آلية عمل تحددها اللجنة العليا وتسهم بدورها في إثراء عمل اللجنة، وتوفير دعامات مهنية لها، سواء في بنيه القرار نفسه، أو الموجِّهات الأخرى المرتبطة بتفسيره وتحليله، وقراءة الأبعاد المرتبطة به على الصحة النفسية وإدارة المشاعر، أو عبر استضافة ذوي الاختصاص في هذا المجال في شرح الأبعاد النَّفْسية وتحليل مؤشرات الرصد واستطلاعات الرأي والمسوحات النَّفْسية، وغيرها من الأدوات في إعطاء صورة واضحة حول هذه القرارات وانعكاساتها على مسار الالتزام من جهة، أو في تفعيل دور المواطن الشريك والمساند في برامج الوقاية وخطط العلاج من جهة أخرى... فهل سيكون للبُعد النَّفْسي حضوره الواسع في توجُّهات اللجنة العليا في قادم الوقت؟ وهل سيكون لمشاعر المواطن وصحته النَّفْسية موقع الصدارة في معركة اللجنة العليا مع كورونا؟