أ.د. محمد الدعمي:
أضحكني سبنسر كوكس Cox، حاكم ولاية يوتا Utah الأميركية عندما اشتكى (متهكمًا) على شاشة الــ(CBS) من تحوُّل السياسة بين سكان ولايته إلى هواية وإلى شكل من أشكال التسلية، عادًّا هذه الظاهرة المجتمعية خروجًا عن القاعدة والمأثور الذي يحصر السياسة وشؤونها بتلك "النخبة" المنتقاة من الأفراد الذين يطلق عليهم لفظ "سياسيون"! وقد تندرت في دخيلتي عندما قارنت ما قاله هذا الحاكم مع حال تعاطي السياسة بين الجمهور في عالمنا العربي والشرق أوسطي، إذ إن الجميع يعد نفسه سياسيًّا، فلا يتردد في المشاركة بأنشطة "إبداء الرأي" والنقد سياسيًّا، بل ويدخل عندنا في هذه الفئة (السياسية) حتى ربات البيوت وجلساء المقاهي، بل وحتى الأطفال، أحيانًا.
لست ضد الأنشطة "الشفاهية" أعلاه، فهي لا تضر ولا تنفع، ولكني أتمنى أن ننحو منحى أقرب إلى المفهوم الغربي العام للسياسي: ذلك أنه يعني "احتراف" السياسة، وليس ممارستها شفاهيًّا عند الحاجة لــ"الاستعراض" أو "التحدي" و"الاحتكاك"، كما يجري في مجتمعاتنا، لبالغ الأسف.
ينطوي لفظ "سياسي" هناك (في أميركا وأغلب مجتمعات العالم الغربي) على الاحتراف أولًا؛ وعلى الانتماء لحزب أو لحركة سياسية لها آيديولوجية خاصة بها، بل وتعتمد برامج سياسية تعمل على السير بموجبه والعمل على إنجازه!
والحقُّ يقال هنا، فإن هذا النوع من "العمل السياسي" يبني جدرانًا بين من نطلق عليه لفظ "سياسي" من ناحية وبين "الحداد" و"المعلم" و"رجل الدين" و"الفلاح" و"التاجر"، من الناحية المقابلة: ذلك أن هؤلاء يحترفون حرفًا تخصصية مهمة ليعتاشوا عليها، بل قد تكون أجدى وأكثر أهمية من السياسة، بالمقارنة والمقاربة.
هذا، بكل دقة، ما يجعل الكثير من السياسيين السابقين عبر دول الشرق الأوسط يندبون حظوظهم؛ لأنهم عملوا في السياسة فهدروا جزءًا من حياتهم (كما يعتقدون)، نظرًا لأن العمل السياسي في هذه الدول لا يعتمد الأخلاقيات المدنية Civics ولا السلمية، بل غالبًا ما يكون مجبولًا على العنف والتنافس المميت، بل وعلى تغذية مشاعر الضغينة والأحقاد، للأسف كذلك!
ربما كان هذا الجانب القسري والعنيف وراء خشية المرحوم والدي عليَّ من الانزلاق في غياهب عالم السياسة قبل أن يتوفاه الله، لأنه غالبًا ما كان ينصحني بالقول "السياسة لا تقدم لك الخبز!" (السياسة ما توكل خبز). وقد تأكدت لي صحة هذا بعد أن ذهب العديد من أقراني (ومنهم أصدقاء أعزاء) ضحايا التدخل في السياسة، درجة تقديمهم أنفسهم ضحايا أتت على جوانب مهمة ونشطة من حياتهم ومستقبلهم، للأسف!
لهذه، من بين سواها من الأسباب، ينبغي أن لا يتصدى للعمل السياسي سوى الذين يدركون كامل أبعاده (سلبية وإيجابية) على سبيل العمل المجدي والخدمة العامة الحقة!

كاتب وباحث أكاديمي عراقي