د. رجب بن علي العويسي:
إذا كانت إعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة، قد أسهمت في قطع دابر الهدر المالي، وتقليل النفقات وإعادة هيكلة موارد المال بالمؤسسات، إلا أن الهدر لا يقف اليوم عند الممارسة المالية فحسب، بل يتجه إلى الممارسة الإدارية والتنظيمية والتصرفات في منظومة الحقوق والواجبات والمسؤوليات، وفرض سياسة الأمر الواقع، واندفاعية القرار، وترسيخ مبررات البيروقراطية، التي أثقلت كاهل منظومة الجهاز الإداري للدولة، وحجم الفاقد في إنتاجية المورد البشري، وفاقد العمليات المتكررة وما ارتبط بها من تعقد الإجراءات وتنازع الاختصاصات وازدواجية العمل وتداخل المهام، الناتج عن استمرار فجوة التباينات في السياسات والبرامج، والأوليات والممارسات، والأدوات والآليات، والسلوكيات والقناعات، والفرص والتوقعات، حتى اصطدمت منظومة البناء الداخلي بقرارات إدارية غير مسؤولة، تفتقر لمفهوم الإنسانية، وتتجاوز في ممارساتها أساليب الذوق وحس المسؤولية، وتتنافى مع مبدأ احتواء الكفاءة الوطنية، والمحافظة على إنتاجيتها، ورفع سقف توقعاتها.
وبالتالي يضع الهدر الإداري منظومة الجهاز الإداري للدولة أمام مسؤولية ضبط مواردها، وإعادة ترتيب أوضاعها، وتجسير الخلافات والتصادمات بين كياناتها، وتوجيه اختلاف وجهات النظر لصناعة التكامل وإنتاج القوة، وعبر تبني سياسات وطنية أكثر نضجا ومهنية، وكفاءة وانسيابية وحوكمة الفقه المؤسسي وإنتاجه بطريقة تحفظ استحقاقات البناء الوطني، تنطلق من مرتكزات خطاب عمان المستقبل وما سطره بأحرف من نور بين سطوره، من موجِّهات للعمل الحكومي الكفء، والأداء المؤسسي المنتج، ليقف على موضع الخلل، ويشخص الأزمة الحقيقية في منظومة الجهاز الإداري للدولة التي في تقديرنا الشخصي أكثر من كونها ضبطا للمال العام وتقنينا للصرف، إلى ضبط أساليب العمل والإجراءات، وفكر المسؤول الحكومي، وأجندة القيادات، وآلية اختيارها، وتوزيع المهام، ومستوى الاحتواء للكفاءة والتأثير بالقدوات والاستجابة للتحديات، وحضور المؤسسة في فقه المسؤول الحكومي ذاته في مختلف المستويات الإدارية بالمؤسسة، والمساحة التي يمنحها للتجديد والتطوير النوعي المتقاطع مع كل أشكال السطحية والتقليدية والظواهر الصوتية الإعلامية، ليقف على بيئة العمل، وطرائق الإنجاز، وتقييم العمليات الداخلية، ومستوى رضا الموظف، وارتباط ذلك كله بفقه الرؤية وأهدافها.
ذلك أن مسؤولية تجسيد رؤية عمان 2040، قلبا وقالبا، منهجا وخلقا، رؤية ورسالة، روحا تسري في أدوات العمل، وأساليب التعامل، وطريقة إدارة المؤسسة، واحتواء تقاسيمها، والحوار الداخلي، والشراكة والتمكين، والتناغم بين قيادة المؤسسة والعاملين بها، وموقع الكفاءات في نموذج العمل الداخلي، وآليات اختيار مديري الإدارات والدوائر، والتواصل بين وحدات المؤسسة، وثقافة العمل، وثقافة رئيس الوحدة، وحجم الاهتمام بالرأسمال البشري الاجتماعي، وتوزيع المهام، وتبادل الأدوار، وتقاسم المسؤوليات، واحترام إرادة العاملين بالمؤسسة، وصناعة التغيير، وإعادة إنتاج مهارات العمل وقِيَمه وأخلاقياته، والحفاظ على استقرار الكفاءات، وتوفير الأمان النفسي وبيئة العمل المحفزة، وتبني سياسة الباب المفتوح، والانتقال بالعمل المؤسسي إلى مرحلة الشراكة الفعلية والحس الجمعي المشترك، وأن يدرك أن الممارسة الاحترافية القادرة على احتواء الواقع، ورسم علامة فارقة في حياة المؤسسة، والمحافظة على استمرارية كفاءة المورد البشري؛ أولوية يجب أن تدرك، وهاجس يجب أن يحظى بالمتابعة والاهتمام، وليس حالة مزاجية يتجه إليها المسؤول الحكومي متى ما أراد ذلك وبالكيفية التي يراها مناسبة.
وعليه، كيف يمكن في ظل التوقعات المتعاظمة للمجتمع الوظيفي بما تتجه إليه رؤية "عمان 2040" أن تقدم نموذجا حضاريا وطنيا للعمل المؤطر والأداء المسؤول، يأخذ في الحسبان كل الإخفاقات السابقة والتحديات الماثلة، وتنشيط كل الفرص الهاملة وإعادة الحياة فيها، وضمان حضورها الفاعل في العقل الاستراتيجي للمؤسسة، وأن تقدم المؤسسات سلوكا إداريا مبتكرا في الأداء الوطني الكفء يتجاوز حالة الهدر الإداري القائم، ويتناغم مع التوجُّهات الوطنية في حوكمة الأداء، وكفاءة الممارسة المؤسسية، بحيث تعكس ممارسات القيادات العليا بالمؤسسة (وزير، وكيل، مدير عام..)، فكرا مؤسسيا رائدا، يمتلك السيناريوهات والبدائل، ويقرأ فرص النجاح، ويستقطب الكفاءة، ويؤسس سلوكا يرقى بالمؤسسة، ويعظم قيمتها في قناعة منتسبيها وثقة المجتمع، هذا الأمر يأخذ في الحسبان مستوى كفاءة أجندة هذه القيادات التي تحملها لنهوض العمل وترسيخ الجودة والكفاءة فيه، خصوصا في ظل طموحات المواطن اليوم والمجتمع الوظيفي الذي ينتظر تحوُّلات تظهر على واقع الأداء الحكومي، سواء في إدارة التفاعلات الداخلية في المؤسسات، والتركز على الأولويات، وتجنيب المؤسسات السلوكيات الأحادية والأفكار السطحية والمحسوبيات والممارسات الاستفزازية، وحالة العجز الفكري والنفسي والإداري التي تعيشها بعض القيادات في إدارة استحقاقات المرحلة، وتجسيد أولويات الرؤية في الواقع، فإن مسؤوليتها اليوم أن تكيف بيئة العمل المؤسسي بما تحمله من تفاعلات داخلية وأفكار وموارد بشرية في التعايش مع مدركات الرؤية، بحيث توفر ضمانات تواصلية تعيد تهيئة المجتمع الوظيفي نحو التكيف مع طبيعة المرحلة وما تحمله من أجندة عمل، وما تتطلبه من جهد استثنائي يرتبط بمنح فرص التغيير الذاتي، وأساليب الخطاب ومنهجية التعامل، وأساليب العمل، والارتقاء بالفكر الاستراتيجي للمؤسسة الذي يبعدها عن التصرفات التي تقزم الأداء، في توازن بين الضبط والربط، والإنتاجية والالتزام، وعندها يمارس الموظف دور التسويق للعمل المؤسسي، والاستثمار في الفرص والممكنات، بما يقدمه للمؤسسة من رصيد اجتماعي واسع وحضور في أجندة التنافسية والجودة.
من هنا تبقى مسألة المحافظة على كفاءة إنتاجية الأداء الحكومي في مواجهة حالة الهدر الإداري التي باتت تعصف بأجندة المؤسسات وأولوياتها، مرهونة بإحداث نهضة في الفكر وثقافة المسؤول الحكومي ووجود نظام وطني قادر على احتواء معطيات الواقع والاستجابة لها، والمحافظة على سقف التوقعات، مع الإبقاء على الخصوصية الوطنية والهُوية المؤسسية العمانية في مستوى القوة بما تحمله من روح العطاء، وفقه الالتزام بالقانون، وما تمتلكه قيادات المؤسسات من أجندة التطوير النوعي المعزز بنهج الصلاحيات والحوافز، والمؤطر بمبدأ التمكين ووضع المواطن في أولويات العمل، وتوفير ضمانات الأمان الذاتية للكفاءة الوطنية في أن تقدم كل ما في وسعها من أجل خدمة وطنها، ومدى وفاء هذه القيادات بتعهداتها في بناء فقه مؤسسي ناضج، وتحملها مسؤولية الإخفاق في عدم قدرتها على احتواء الكفاءة، واستمرار تصارع الأدوار والاهتمام بقضايا قد لا تتناغم مع مبدأ الأولويات، وبالتالي قيادة مؤسسية تحفظ الود، وتعي المسؤولية، وتقف على الواجب، وتقرأ ما بين سطور الحياة وظروفها، موقع المواطن من هذه الأزمات والأحداث، لتقف مع الموظف آخذة بيده، حاملة معها طموحه، متجاوزة كل أشكال الهدر في الوقت والجهد والصحة التي أصبح يتكبدها الموظف المخلص، في حين تتجه الأنظار لاهتمامات أخرى خارج صندوق المعادلة؛ آخذة بعين الاعتبار التنازلات التي قدمها المواطن من أجل تحقيق أهداف المؤسسة وغاياتها، فوقف الترقيات والحوافز والمكافآت، وخفض الراتب لمن كانت لديهم بدلات خارج المهام الوظيفية وغيرها كثير، في قائمة متطلبات غير منتهية والتزامات تجاوزت حدود الاستطاعة، تضع المؤسسات اليوم أمام مسؤولية تبنِّي مبادرات جادَّة وخيارات وبدائل متجددة، تتسم بالواقعية والتحفيز النوعي، تعيد إنتاج الواقع وتهيئة الظروف المواتية والفرص المتاحة بما يفتح الآمال لبداية مرحلة جديدة تنتج من رحم الأزمات والظروف والأحداث لتتحول إلى طاقة من الشغف والإنجاز والعطاء والحب لعُمان، لا تتعذر بحجم الموارد، ولا تتحجج بوقف الحوافز والمكآفات والترقيات، ما دامت تجد روح التجديد ماضية في طريقها، مستلهمة الثقة في قدرات الإنسان العماني نحو خدمة وطنه.
أخيرا، يبقى الهدر وفاقد العمليات الإدارية المتكررة، أحد المنغصات والتحديات التي تواجه منظومة الجهاز الإداري للدولة، وهي في تعدد أشكالها، وتضاعف آثارها، وتزايد نواتجها السلبية على منتج الأداء الحكومي، بحاجة اليوم إلى وقفات متأنية وتشخيص دقيق لها من قبل الأجهزة الرقابية بالدولة، والإسراع في إصدار الممكنات الواردة في الفصل السادس من النظام الأساسي للدولة "المتابعة والرقابة على الأداء الحكومي" وعبر المادتين (65/66) في رسم ملامح هذه منظومة متابعة الأداء الحكومي، مسؤولية إعادة تشخيص الحالة المؤسسية، وتبنِّي مبادرات جادَّة لقراءة ما يحصل في واقع المؤسسات التي لم تعد اليوم في بعضها بيئة آمنة للموظف المخلص والإنجاز النوعي الذي يجسد رؤية "عُمان 2040"، إنها مرحلة تتطلب المزيد من تقنين الجهد المؤسسي، وضبط الممارسة المهنية، والتفكير الجاد في تبني مبادرات مؤسسية، ومشروعات تحقق هدف الوصول إلى خيارات ملهمة يستشعر الموظف أثرها وفخره بنتائجها؛ فإن الانتقال بعُمان المستقبل إلى مستوى طموحات أبنائها المخلصين المتعاظمة لا يمكن أن تتحقق في ظل عقد الإدارة، ومسوغات أشكال الهدر الأخرى، وعبر ممارسات إدارية متهالكة، باتت تمجد السلطوية والفردانية والرأي الواحد في المؤسسات، وتبني نجاحها ومسار عملها على لغة الاستفزاز والتهميش للكفاءات وإقصاء الآخر.