د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. وترى هنا شرف نداء رب العالمين على أكرم عبدٍ اتخذه من قبل خليلًا، وكان وحده أمةً، ناداه ربُّه وحبيبه انتظر فقد صدقت الرؤيا وكنت من أصدق الصادقين وكنت ن المحسنين نعم، أن هذا الفعل منك والتسليم منكما لهو البلاء المبين أي البلاء الذي أبان عن نفسه وتحدث عن ماهيته وطبيعته، ثم جاءت شرعة الفداء، والذبح:(وفديناه بذبحٍ عظيم)، ينزل الفداء من السماء لابن من الأبناء، ينزل لأب من الآباء؟، ويصير قرآنًا يتلى، وشعيرة وفريضة إلى يوم القيامة، نذبح ونقدم الهدي اقتداء بأبي الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل، ونتذكر كل ما كان منهم لربهم، وكيف كانت تلك الأسرة مثالًا لحسن الامتثال، وكريم التوجه، وسرعة الاستجابة، وكمال الاستسلام، وانظر إلى فاعل الفعل (فدى) وهو (نا) الدالة على العظمة، لعظمة الموقف، وجلال كلِّ ما فيه، والمصدر (ذبح) بوزن فعل أي مذبوح عظيم، و(ذبح) نكرة شائعة الدلالة، أي ذبح ضخم، فيه كل ألوان وشروط ما يُذبَح: سِمَنًا وكِبَرًا، وضخامة، وامتلاء، وشحمًا، ولحمًا، ثم إن كلمة (عظيم) من الصفات المشبهة، أيْ: أن العظمة باقية، فيه لا تنفك عنه، والعظمة فيه لا يمكن ذهابها بحال، أو تقليلها، فالصفة المشبهة تطلق، ويراد نها ثبوت معناها على سبيل الدوام، والأزلية، ولا يزال الحكم الشرعي فيها مستمرًا، يوضح لنا هذا العمل الكبير من تلك الأسرة المؤمنة، كلما هل العيد وجاءت التضحية والفداء تذكرنا رمز الفداء وجمال التربية وحسن التوجه وكمال الالتزام وجلال الاستسلام.

وفي قوله تعالى:(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة 198 ـ 199).

استعملت (إذا) التي تفيد أمرين: وجوب التحقق والوقوع، وتكرار ذلك كلما توفرت أسبابه، وهو على شاكلة:(إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا ..)، وهذا يعني أنه كلما كانت إفاضة كان ثمة ذكْر عند المشعر الحرام في مزدلفة، والفعل (أفضتم) يوحي بتشكيله الصوتي، وبِنْيته الصرفية بفيض الأعداد، وتغطيته الأرض منهم، فهم كالفيضان في شدته، وقوته، وضخامته، واندفاعه، وهذا حاصل بالفعل، فمعظمنا شهد تلك اللحظة لحظة الإفاضة من عرفات، وتجمُّع الخلق للانطلاق في لحظة واحدة من جميع الطرق، والمسالك، فعلا كفيضان يَعُمُّ كل الأرض، ويمضي من كل طريق، وينساح من كل سبيل، فأينما توجِّه بصرك تجد الأرض تفيض فيضانا بالناس، وتموج كموج البحر، من كثرة أعدادهم التي تقدَّر بالملايين كلَّ عام، وترى في فعل الأمر بالذكر(واذكروا) أنه غاية وهدف، ومرمى ومقصد، وتجد أنه الفعل الأبرز والأظهر في الحج هو الذكر فقد تكرر خمس مرات، لأنه هدفٌ في حد ذاته، فالحج كله ذكر وشكر، وإنابة ودعاءـ تجد مثلًا:(فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ)، ثم تجد الأمر بالذكر:(وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ)، ثم الأمر بالاستغفار:(وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ)، وهو ذكر، ثم يأتي الأمر بالذكر فعلًا ومصدرًا ثلاث مرات تباعًا متتالية، كأنه مقصود قصدًا:(فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا) فهو أمر متتابع مقصود، يجب علينا أن نلمحه، ونجعلها أيامَ ذكر، وشكر لله تعالى، فشعيرة الحج كلها تلبية، وذكر، ولهج بالدعاء، وشكر، وفيه تربية، وتعليم لنا، سواء أكنَّا حجاجا واقفين على عرفات، أم كنَّا في بيوتنا نتابع إخواننا في رحلتهم الإيمانية الكبيرة، نتابعهم بالذكر والصوم، والتلاوة والدعاء، والتكبير والتهليل، فترى الأرض كلها كخلية النحل دَوِيًّا بالتلاوة والذكر، والدعاء والإنابة، لا أحد يضيع وقته في غير ذكر وشكر، وتلبية وتكبير، ولا يصرفه إلا في دعاء، مناجاة.

فبين عرفات، والمشعر الحرام تعجُّ الأرضُ ذكرا ودعاء، فهم طوال النهار حتى مغيب الشمس في عرفات الله ملبِّين، ذاكرين قد بُحَّتْ منهم الحناجر، وتعبت منهم الأجسام، وفي مزدلفة يصلون، ويذكرون، ويجمعون الحصوات والجمرات التي يمضون بها إلى مكان رمي الجِمار، فيستريحون قليلًا من عناء اليوم يوم عرفة، وسفره، أو مشيه، فينامون في مزدلفة (المشعر الحرام) بعد صلاة المغرب والعشاء جمعَ تقديم، ويلونها قصرا، وينامون إلى طلوع الفجر؛ تمهيدا للانطلاق إلى يوم حافل برمي الجمرات، حيث منى، وما أدراك ما مِنَى التي هي غاية المُنَى، وسبيلُ الهدى، وختامُ الشعيرة الكبيرة، والرحلة المباركة العظيمة التي من نتائجها عودةُ صاحبها أبيضَ الصفحات، كيوم ولدته أمه، والكاف في (كما هداكم) تفيد التعليل، أي لهدايته إياكم، أو بسبب هدايته إياكم، ولأجلها، فكل عمل له سبب، ونتيجة، نتعلم أنه لابد من نتيجة يسبقها سبب، ثم تجد قوله تعالى:(ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس)، فيه ملمح تربوي كبير، خلاصته التواضع، ونكران الذات، إذ كانت قريش تفضِّل نفسها على كل الناس، وتقول:(نحن أهل بيت الله، وسكانُ بلدته، فلا نفيض مع بقية الناس، نحن لنا منزلة فوق الناس)، فأمرهم الله بالالتزام، والإفاضة مع بقية الخلق، وألا يتعالوا، لكونهم من أهل مكة، أهل البيت الحرام، ففي الآية كناية عن وجوب الوَحدة، والألفة، والعودة إلى حياة الأخوة، والتواضع، وترْك الكبر، وهو أمر من الله لا يمكن رفضه، أو العمل دونه، و(أل) في الناس جنسية، أي جنس الناس: أحمرهم، وأصفرهم، وأبيضهم، وأسودهم، كبارهم وصغارهم، رجالهم ونسائهم، شبابهم وشيبهم، أنتم مثل الناس، فلابد أن تفيضوا من هذا الموضع الذي منه الناس يفيضون، فترَكَ أهلُ مكة مكانَ إفاضتهم، وأفاضوا مع الناس، توقيرًا لربهم، وامتثالًا لأمره، وخضوعًا لحكمه، وهنا نتعلم أننا مهما كنا كرامًا، ومهما كنا كبارًا، فلابد من التواضع، والسير مع الخلق كلهم، وعدم التكبر على أحد، فكلكم لآدم، وآدم من تراب لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأبيض على أسود، ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى، ثم الأمر الدائم لكل الناس:(واستغفروا الله إن الله غفور رحيم)، نعم رحلة الحج نهايتها غفران، ورحمة، وتنقية، وتصفية، وتَجَلٍّ، وتَحَلٍّ، وتوبة، وأوبة، رحلة نبتغي بها صفاء القلوب، ونقاء الأفئدة، وبياض الصحائف، والعودة إلى الحياة بكل قلب، وعقل ألقى بأوزاره، ورمى بأحماله هناك، حيث الجَمَال والكَمَال، وحيث سبحات الجلال، والمغفرة من الكريم المتعال، الحنَّان المنَّان، صاحب النعم، والأفضال، والخير المتواصل المتتالي ـ جل جلاله.

فأنت تجد الآيات تنضح طهرًا وجلالًا، وتشع كمالًا وجمالًا، وكل كلمة فيها حياة كاملة، وتشعر بأنك تسبح في عالم من الطهر كله، وتعيش وفق متطلبات الدين القويمة، وتحيا حياة الأخوة، وساعات النبل، تتنقل من كمال إلى كمال، وتتذوق نعيم القرب، وتشعر بنعمة الود، والجميع يتكاتف لنجاح تلك الرحلة الكبرى في حياة الإنسان، ويتغاضى، ويتسامح، فتشعر كأنك ملاك، وكان من حولك صاروا ملائكة، والحياة تحولت إلى جنانٍ فيحاءَ، يتعامل فيها الناس بكل فطرة صادقة، وتراهم قد تركوا حياتهم العادية، وامتثلوا في كل لحظة لربهم، ونظروا في صحة وسلامة وقبول حجهم، والجميع يخاف على حجه: أن يناله ما يشوبه، أو يحيط به ما يعيبه، وترى كل حاج في حاله، منشغلًا في نفسه، وتوبته، وذكره وتقرُّبه، هذا يكبِّر، وهذا يلبِّي، وهذا تلاء للقرآن، وهذا بكَّاء بالدعاء، وهذا يعلِّم الناس الأحكام، وذاك يؤمِّنُ على الدعاء، وهذا يحمل عنك أمتعتَك، وهذا يبتسم لك داعيا، وهذا يدعو لك صادقًا بالتوفيق والقبول، ويتمنى لك، ولغيرك تمام الوصول، وقبول الحج، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله، وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين. وكل عام وأنتم بخير، وتقبل الله منا ومنكم.

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية

[email protected]