د. أحمد مصطفى أحمد:
من أهم ما اتفق عليه زعماء الدول الغنية في قمة مجموعة السبع الأخيرة الشهر الماضي في بريطانيا هو استمرار طبع النقد حتى لا يتضرر التعافي الاقتصادي الهش من أزمة وباء كورونا. طبعا لم يعلنوا صراحة أن حكوماتهم ستطبع النقود وتوزعها لدعم الاقتصاد، لكن الاتفاق على ضخ السيولة عبر شراء البنوك المركزية لسندات الدين وإبقاء سعر الفائدة قرب الصفر؛ يعني ذلك بالضبط حتى لو لم تكن هناك حاجة لطبع النقد بشكل مادي. تقليديا، هذا ما تلجأ إليه الحكومات في أوقات التراجع الاقتصادي: ضخ السيولة لتنشيط النمو. مع تطور الاقتصادات والزيادة الهائلة في حجمها، لم يعد توفير السيولة يتم فقط عبر تشغيل ماكينات سك العملة أو طباعة النقد، بل بزيادة "الأرقام" في كشوف الحسابات. وبما أن النظام المالي يتحوَّل إلى رقمي بوتيرة أسرع، فلم تعد تلك السيولة سوى تغيير أرقام إلكترونيا عبر الإنترنت. لا يعني ذلك أن العملات المادية ستختفي لصالح ما هو رقمي وافتراضي حاليا، لكن قدرا كبيرا من الثروة المالية حول العالم الآن لم تعد سوى أرقام في محفظة إلكترونية أو دفاتر حسابات رقمية عبر برامج حاسوب (كمبيوتر) متخصصة وشبكات إنترنت مؤمَّنة.
في قديم الزمان، قبل سك العملات، كان البشر يتعاملون بالمقايضة حيث سكان الأرض عددهم قليل والنشاط الاقتصادي محدود. ثم مع كبر المجتمعات وضمن تطوُّر إدارة أمورها تم سك العملات، التي كانت في البداية من المعادن النفيسة؛ لأنها كانت تحمل قيمة الثروة فيها. ثم صار سك العملة من معادن عادية إلى جانب عملات المعادن النفيسة مع زيادة حجم النقد المتداول في الاقتصاد. وبعد ذلك تم طباعة النقود الورقية في مرحلة متأخرة. وكانت العملة الوطنية حتى سبعينيات القرن الماضي مدعومة باحتياطي من الذهب لدى البنك المركزي للدولة المصدرة للعملة حتى ساد الدولار الأميركي كعملة احتياط إلى جانب الذهب بعد الحرب العالمية الثانية ثم تسيد الدولار لفترة قبل أن يصبح هناك ما يُسمى "سلة عملات" كاحتياطي للبنوك المركزية تستند إليه قوة العملة الوطنية. والآن تتجه البنوك المركزية في الاقتصادات الرئيسية لإصدار عملات رقمية وطنية إلى جانب العملات المادية (المعدنية والورقية). لكنها تختلف تماما عن العملات الافتراضية المشفَّرة مثل بيتكوين وغيرها.
في القرن السادس عشر، قال التاجر البريطاني ومستشار التاج الملكي وقتها توماس جريشام عبارته الشهيرة التي ما زالت تستخدم حتى اليوم "العملة الرديئة تطرد العملة الجيِّدة من السوق". ذلك أنه منذ سُكَّت العملات، يتداول الناس في البيع والشراء وكافة المعاملات النقدية بالنقد من النحاس وغيره لكنهم يحتفظون بعملات الذهب كمخزن للقيمة. هكذا الحال مع العملات المشفَّرة، يتم الاحتفاظ بها كمخزن للثروة وليس للتداول في المعاملات. تسعى العملات المشفَّرة الآن لأن تكون مخزنا للقيمة، كالذهب مثلا لكن بشكل افتراضي وليس ماديا. لكن هناك مشكلة فعلية في ذلك، ليس لأن المشفَّرات ليست عملة أصلا ولكن لأنها تعاني من تذبذب هائل في قيمتها يجعل استخدامها كعملة احتياط محل شك كبير. يروج أنصار بيتكوين مثلا إلى أن النظام المالي العالمي الرسمي يخشى من الحرية المطلقة التي توفرها المشفَّرات، فهي في النهاية ليست سوى أسطر برامجية على شبكة مؤمَّنة على الإنترنت (بلوكتشين) لا تخضع لأي قواعد أو نظم ولا يعرف من يتعامل بها ولا كم ثروة هؤلاء المتعاملين.
الحقيقة أن النظام المالي العالمي لن ينتظر طويلا قبل أن تكون لديه عملات رقمية وطنية تجعل تلك المشفَّرات كبيتكوين مجرد أصل رقمي للمضاربات في أسواق المال وتغلق تماما الباب على أن تصبح المشفَّرات عملات تداول ـ أي للدفع والتحويل. لم يكن ذلك التوجُّه نحو العملات الرقمية الوطنية ناتجا عن بروز المشفَّرات، بل هو متطلب تفرضه تطوُّرات الاقتصاد العالمي وقطاعه المالي منذ فترة. فلننظر إلى بعض الأرقام الكلِّية للاقتصاد العالمي لندرك أن القدر الأكبر من الثروة الدولية لم تعد نقدا حقيقيا أو قيمة أصول مادية حقيقية. يبلغ الناتج المحلي الإجمالي العالمي ما بين 90 و100 تريليون دولار بينما حجم إجمالي الدين في العالم يتجاوز ضعف هذا المبلغ؛ أي أن هناك ما يزيد عن حجم الناتج المحلي الإجمالي العالمي مجرد ثروة ورقية (أو الآن رقمية) من المالي غير الموجود. وإذا كانت قيمة الأصول المادية في العالم (مخزون قيمة الثروة) مبالغ في تقديرها بما يوازي الضعف بالفعل يمكن ببساطة أن نخلص إلى أن قيمة المال أصبحت "منفوخة" بشكل كبير. قبل العصر الرقمي، كانت تلك المغالاة يقوم النظام بتصحيحها بانهيارات مالية تعيد الأصول إلى قيمتها الحقيقية، وتحذف كميات هائلة من المال من النظام (طبعا كلها أرقام في دفاتر أو برامج حاسوب "كمبيوتر"). وواضح أن الدورات الاقتصادية التقليدية من نمو وانكماش لم تعد كما كانت، وبالتالي يظل النظام المالي ممتلئا بتلك "الانتفاخات" التي تقلل من قيمة المال ومن قيمة الثروة عموما. افترض البعض أن المشفَّرات يمكن أن تمتص تلك التشوهات، لكن ما حدث أنها ساهمت في زيادة "فقاعات الانتفاخ" والمزيد من إهدار قيمة المال.