محمد بن سعيد الفطيسي:
سبب كتابة هذا المقال هو أنني دائما ما أسمع الكثير من الأحاديث والأقوال حول الثوابت والمتغيرات في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية؟ الثوابت التي تعتز بها الدول وتحافظ عليها وتتمسك بها في تعاملاتها وسياساتها وعلاقاتها، فهل حقا توجد ثوابت في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية؟ هل يمكن أن تتحول بعض المبادئ والقِيَم والتقاليد والتوجُّهات السياسية للدول إلى ثوابت وقِيَم سياسية لا يمكن أن تتغير بتغير الأحوال والظروف والأزمان والقيادات؟
للإجابة عن هذا السؤال، وجدت من المهم أولا التطرق إلى ماهية السياسة الخارجية والتي باختصار يمكن تعريفها بأنها فن إدارة جزء من أجزاء السياسة العامة للدولة تحديدا تلك المتعلقة بعلاقاتها ومصالحها ومواقفها في البعد أو الإطار الدولي؛ أو هي فن "إدارة التوازنات والمصالح والعلاقات"(1) مع التأكيد على عدم وجود تعريف جامع مانع لمفهوم السياسة عموما أو السياسة الخارجية خصوصا.
وتدخل العلاقات الدولية بالرغم من كونها أكاديميا من الحقول المستقلة بذاتها كجزء من السياسة العامة للدولة(2) ويطلق عليها كذلك السياسة الدولية، وهي الجانب الرئيس والأصيل للسياسة الخارجية للدول، وكما هو حال الأصل في عدم وجود تعريف مجمع عليه، فهو حال الفرع كذلك. فتعريفها ينبع من موضوعاتها وطبيعتها، وبالتالي يوجهنا هذا الأمر إلى أبرز النظريات المؤسسة لها وهي النظرية المثالية والنظرية الواقعية مع التأكيد على وجود مناظرات أخرى لا تقل أهمية مثل الليبرالية والسلوكية والتقليدية.
على العموم وهو أمر يستطيع أغلب الباحثين والدارسين للعلوم السياسية والسياسة الخارجية والعلاقات الدولية الإجماع عليه تقريبا، وهو أن المثلث السابق بكل تفرعاته مرتبط بالمصالح السياسية (الأنانية) كمحرك رئيسي، وكما أشار إلى ذلك هانز مورجينتاو من أن "السياسة شأنها شأن المجتمع عامة، تحكمها قوانين موضوعية جذورها متأصلة في الطبيعة البشرية والمعلم الأساسي الذي يساعد الواقعية السياسية هو مفهوم المصلحة المحدد وفق شروط القوة"(3)
إذًا لا نجد في تعاريف السياسة عموما ولا السياسة الخارجية ولا حتى العلاقات أو السياسات الدولية ما يؤيد وجود جانب من جوانب الثبات حتى في تلك الإنسانية والمثالية منها، وبالتالي فإن الجوانب التي يمكن أن يطلق عليها بالقِيَم والمبادئ الثابتة تبقى في إطار احتمالي مؤقت أو نسبي في أغلب الأحيان تتجاذبها الظروف والمتغيرات والأحوال وأفكار القيادات السياسية.
جانب آخر مهم في هذا الأمر يمكن التعرف عليه من خلال طرح السؤال الآتي: ألا يتناقض التأكيد على وجود ثابت في السياسة الدولية مع انعدام الحرية الكاملة للدول في إطار النظام الدولي؟ "نادرا جدا بالنسبة لأي دولة متورطة في العلاقات الدولية أن تتمتع بالحرية الكاملة حتى قادة أعظم القوى مقيدون بالظروف والملابسات (الإنسانية وغير الإنسانية) والتي يجدون أنفسهم محاطين بها"(4)، باختصار فإن العلاقات دائما ما تكون عبارة عن نوع من الصراع والتنافس، وهو ما يؤكد في نهاية المطاف استحالة وجود ثوابت في السياسة الخارجية لأية دولة مهما كان البعد الإنساني أو المثالي مترسخا في قِيَمها ومبادئها وتقاليدها المؤسسة لسياساتها الخارجية.
نعم قد تحافظ على تلك الجوانب إلى حدود معيَّنة، قد تقاتل من أجلها، قد تفعل الكثير من أجل الإبقاء عليها، ولكن بكل تأكيد لن يكون ذلك على حساب مصالحها، وهذا الجانب أو الاتجاه يتأكد ـ بلا شك ـ من خلال دراسة التاريخ السياسي للأمم، دراسة طبيعة السياسة عموما والسياسة الدولية على وجه الخصوص، يتأكد من خلال الواقعية والطبيعة البشرية.
أخيرا، نطرح السؤال الآتي: هل ينفي كل ما سبق وجود ثوابت نسبية (مؤقتة) لدى العديد من الدول؟ طبعا الجواب قطعا بلا، فالعديد من الدول قد تحافظ ـ وإلى حدود بعيدة ـ على العديد من تقاليدها وتوجُّهاتها السياسية، رغم أن هذا الأمر لا يسهل التمسك به في بيئة دولية شديدة التعقيد كثيرة التقلبات سريعة التجاذبات على مستوى الصداقات والعداوات.
إذًا واقعية وعقلانية وكذلك التاريخ السياسي للدول مع تأكيد أن السياسة الخارجية تعمل وفق المصالح السياسية البحتة كأصل من أصول العمل السياسي، ولا يمكن نفي المثالية والإنسانية كذلك كامتداد متفرع أو مؤقت لها، دون تحديد المدى الزمني لهذا الأخير؛ بالتالي فإن الثابت من وجهة نظري هو المصالح والمتغير هو المثالية والإنسانية في السياسة الخارجية.
ــــــــــــــــــــــــــــ
1- محمد سعيد الفطيسي، التوجهات الكبرى في بنية النظام العالمي وتأثيرها على المبادئ الأمنية الموجهة للسياسة الخارجية العمانية، مكتبة الضامري، السيب/ سلطنة عمان، ط1/2018، ص 48
2- هناك من يجد أن مصطلح الإدارة العامة للدولة هو ذاته مصطلح السياسة العامة للدولة، ولا أجد ذلك عندي، فالسياسة العامة أعم وتشمل الإدارة العامة، فالسياسة هي من تحدد مهام الدولة والتي من ضمنها المهام الإدارية
3- د. جوانيتا الياس، د. بيتر ستش، أساسيات العلاقات الدولية، دار الفرقد، دمشق/ سوريا، ط1/2016، ص 27
4- روبرت جاكسون، ميثاق العولمة (سلوك الإنسان في عالم عامر بالدول) تعريب: فاضل جتكر، مكتبة العبيكان، ط1/ 2003ص 74