نجوى عبداللطيف جناحي:
قصتان ذكرتا في القرآن الكريم بتفصيل دقيق، وسرد بليغ، وعرض شيق يستهوي القارئ، لتترك هاتان القصتان أثرا في النفوس، تلك القصتان تحكي قصة خلاف بين إخوة بسبب الغيرة والحسد الذي جرَّ الحاسد إلى قتل أو محاولة قتل المحسود. وقد ذكر الله تعالى هاتين القصتين بالتفصيل في كتابه العزيز؛ ليبين أن رذيلة الحسد إذا تمكنت في النَّفس، وتأصَّلت فيها، أوردتها إلى المهالك، وزيَّنت لها البغي والعدوان، والإثم والطغيان، ودفعتها لأبشع الجرائم وهي القتل. فالحسد هو السيف الذي يقطع علاقات الأخوة بين إخوة تربوا معا في بيت واحد وتسري في عروقهم دماء آبائهم.
فقد قال تعالى في سورة المائدة: 27 ـ 30 (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (فإن آدم ـ عليه السلام ـ لما بعث إلى أولاده، كانوا مسلمين مطيعين، ولم يحدث بينهم اختلاف في الدين، إلى أن قتل قابيل هابيل؛ بسبب الحسد، حيث قتل قابيل هابيل حسدا؛ لأن الله تقبل من أخيه القربان ولم يتقبل منه.
أما عن قصة سيدنا يوسف فقد قال تعالى: (لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ)(يوسف: 7- 9) قال الماوردي: (كان يعقوب قد كلف بهما؛ لموت أمهما، وزاد في المراعاة لهما، فذلك سبب حسدهم لهما، وكان شديد الحبِّ ليوسف، فكان الحسد له أكثر، ثم رأى الرؤيا فصار الحسد له أشد). والغريب أن سبب حسد إخوة يوسف لأخيهما ليس لأن أباهم يميزهما في العطايا، بل كان يميزهما في الحنان والملاطفة حيث قالوا: (يخلُ لكم وجه أبيكم) فخططوا لقتل يوسف ليفوزوا بمزيد من الاهتمام من أبيهم. وانظر إلى حكمة الله تعالى أن يروي قصة خلاف بين إخوة حدث منذ قرون ويحفظها في كتابه العزيز ليقرأها الناس على مرِّ الأجيال فيعتبروا بها، ذلك لبشاعة الحسد بين الإخوة. فعلينا أن نحمي قلوبنا من الحسد كي لا ننجرف إلى المهالك، وعلينا أن نتفهم تصرفات آبائنا عندما يضطرون لتمييز أحد الإخوة، وعلينا أن نعزز المشاعر الإيجابية تجاه إخوتنا فنفرح لهم إن خصهم الله بالرزق، ونرضى بقدرنا.
كما تتضمن هاتان القصتان رسالة واضحة للمربين، فإن التمييز في المعاملة بين الإخوة يثير الغيرة والحسد والذي يورث الحقد بينهم، وقد يجرهم إلى خلافات تنتهي ببتر علاقة الأخوة بينهم، فيضطرهم الخلاف بينهم إلى درجة أن يقتل بعضهم بعضا. فالعدل بين الأبناء أمر واجب على المربين، فالبعض يحابي أبناء زوجة دون أبناء الأخرى، ويفرِّق بينهم فيزرع بيده الخلاف بين الأشقاء، والبعض يحابي أبناءه الذكور على الإناث، فيزرع الحسد بينهم، والبعض يحابي الابن الأصغر أو الابن الأكبر على أواسط الأبناء دون قصد، فيثير الأسى والحزن لديهم. وقد أمر الشرع بالعدل بين الأولاد، ونهى عن تفضيل بعضهم على بعض حتى لا تثور الأحقاد والعداوة بينهم؛ فيجب العدل بين الأبناء بأن يكون في العطايا وحتى في الاهتمام كالكلمات والقبلات. وقد رُوي أن رجلا كان عند النبي، صلى الله عليه وسلم، فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه، وجاءت ابنة له فأجلسها بين يديه فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ألا سويت بينهما، فالرسول الكريم يحرص على تحقيق هذا العدل وهذه المساواة حتى في أشكالها البسيطة التي ربما لا يلتفت لها الكبار، غير أن لها تأثيرها الكبير في الصغار. فالرجل وقد أجلس الاثنين الولد والبنت إلا أنه أجلس الولد في موضع والبنت في موضع آخر، وهو ما يمكن أن يؤثر في نفس البنت .
نعم قد يضطر الآباء لمراعاة أحد الأبناء دون الآخرين، وأن يوليه اهتماما أكبر من الآخرين لظروف خاصة بهذا الابن، كأن يكون مريضا، أو أن يكون أقل من إخوته في القدرات العقلية والقدرات، أو أن يكون هذا الطفل مرَّ بظروف نفسية في طفولته نتيجة خلافات أسرية في هذه المرحلة، فانعكست على نفسيته، أو أن يكون هذا الابن فقيرا بحاجة لدعم مادي، أو أية سبب آخر، فعلى الأبوين في هذه الحالة توضيح موقفهما وبيان وجهة نظرهما لباقي الأبناء لسبب هذا الدعم الخاص الذي يقدم للابن، بل تشجيع إخوتهم على مساعدتهم لمساندة هذا الأخ الذي يمرُّ بظروف استثنائية، ليكونوا خير عون لإخوتهم... ودمتم أبناء قومي سالمين.