د.جمال عبد العزيز أحمد:
أعزائي القراء .. نستكمل ما تبقى من هذا الموضوع .. وتأتي الحال كذلك لتمتن الصلة بين عامل الحال، وصاحب الحال، والحال، في نسيج واحد، كأنه كلمة واحدة (صفا) أي مصفوفين، مرتبين، منظمين، وهو كناية عن العزة، والسيطرة، والهيمنة التامة لله رب العالمين، وهو كذلك كناية عن القدرة الربانية الكاملة على الكون، ثم تأتي الحال الجملة:(لا يتكلمون)، فهم مصطفون، صامتون، لا يتكلمون مطلقا، مشهد مهيب، رعيب، تنخلع لعظمته الأفئدة، ولجلاله تسح العيون، وتفيض المدامع، وترتجف القلوب، وتسمع الأزيز من الصدور، وهي حال لا يمكن تخيلها، ومعايشتها إلا من ذوي القلوب الخاشعة، وأهل المآقي الدامعة، وأرباب الأكف التي هي دائما لدعائها لله رافعة، وكل أجزاء أجسادها خاشعة، فالجميع صامتون صمتا لا حس معه، ولا همس معه، الجميع ينتظر، والقلب يرتجف، والعين لا تطرف، والأذن تستمع، ثم يأتي الاستثناء الذي ربط المستثنى بالمستثنى منه برباط مسبوك، ومعنى محبوك:(إلا من أذن له الرحمن)، ارتبط الفعل بفاعله، وشبه الجملة (له) ارتبط بمتعلقه الذي يهوي إليه، ويجري دوما عليه:(أذن)، وانظر إلى الفاعل، وما أدراك من في الفاعل في سياقه هنا؟!، إنه (الرحمن)، لم يقل:(الإله الجبار، المنتقم، أو القهار)، وإنما قال ما تفيض معه العين دمعا، يخرج كل ما دخلها في كل حياتها:(الرحمن)، وهي صفة الجمال كله، والرحمة كلها، والحنو كله، والحنان كله، إنها صفة ربي الكريم:(الرحمن)، والله إني لأتعجب من تلك الصفة في هذا السياق، كيف أتت؟!، كنا ننتظر هنا صفة الجبار، القهار، المنتقم، العزيز، القوي، ولكن الله الذي سبقت رحمته غضبه، وسبق حلمه انتقامه، شاء هنا في سياق العزة، والكبرياء كله أن يذكر رحمته في موقف مهيب، كل عباده فيه يرتجف، ويذوب خوفًا، ويتآكل خشية، وينخلع إجلالًا، الجميع ينتظر الانتقام، ويتذكر كل ما فعله مما شأنه الحساب، ودخول النار، فإذا به يسمع في هذا الموطن الرهيب، الرعيب:(الرحمن)، فتنزل على قلبه بردًا، وسلامًا، ويتشوق إلى رحمة الرحمن، وسعة منِّه، وجمال عفوه، يا لها من صفة جاءت في سياقها الرعيب، فنزلت فيه نزلًا طيبًا، وإني لأكتبها، وتغرورق عيني بالدموع؛ لإحساسي بجمالها في سياقها، وجلالها في موضعها، اللهم، فاجعلني ومن يقرؤها يعيشها جمالها هناك، وكمالها، ويرتكن إلى ما فيها في لحظتها وساعتها ويلتف برحمة ربه، وجلال مولاه، اللهم استحب، يا رب العالمين. ثم تأتي الجملة المعطوفة لتكمل سياق الجلال:(وقال صوابًا)، فالإذن له مرهون بقول الصواب، وعدم الهراء، أو الهزل، ونحوه مما كان يصدر عنهم في الدنيا، فهما شرطان: أن يأذن الله له أولًا، وأن يقول الصواب ثانيًا، فهما شرطان في شرط واحد، والعطف هنا قد أدى دوره، وقام بوظيفته خير قيام، و(صوابًا) مفعول القول، وهو مرتبط به، ومسبوك عنه، وفيه، ثم تأتي الجملة المبنية على ما تقدم محبوكة، ضامة معها كل ما سبق؛ لتبني عليه حكمًا واضحًا، لا لبس فيه:(ذلك اليوم الحق فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبًا)، هي جملة اسمية، أي أنها ثابتة الدلالة، سرمدية الحكم، ذلك اليوم الذي تحدثنا عنه، وأنتم الآن مظروفون فيه، هو اليوم الحق، والوعد الحق، و(اليوم) بدل من اسم الإشارة (ذلك)، و(الحق) خبره، وتفرع عليه الجملة الشرطية المبدوءة بالفاء التفريعية، أي التي تظهر وجود شرط محذوف تفرعت عنه، وأبانت، أي: إن كنتم قد علمتم أنه اليوم الحق فمن شاء منكم أن يكون فيه كريما على ربه فعليه أن يتخذ إلى ربه سبيلا. وليسارع، وليتذكر خطورة، وجلال هذا اليوم. و(من) شرطية، وجملة (شاء) جملة الشرط، وهي قد ارتبطت بها ارتباطًا قويًا وعضويًا، كما أن جملة (اتخذ إلى ربه سبيلًا) هي جملة جواب الشرط التي تعانقت مع جملة الشرط في سبك منظوم، وسلك متداخل، منغوم، وشبه الجملة (إلى ربه) متعلق بفعله، مرتد إليه، مسرع نحوه، و(سبيلًا) مفعوله، وكما ترى فإن الكلمات يشتد بينها الحنان، ويزيد الحنين إلى حد بعيد، وتترابط برباط القلب، ورباط أعضائه رباطا فريدا، وكل الجملة الشرطية جوابا لشرط محذوف، فكله يرتبط بكله، وتشعر بأن حركة غير عادية هنا، وهناك، وكل لفق يمضي إلى لفقه، ويرتبط بقلبه، ويحن إلى أخيه، إنه رباط من العلاقات السياقية، والأنساق اللغوية، لا تراه في أي كتاب على ظهر هذه الأرض، لا تجده إلا في كتاب نزل من السماء، ولا تجده في كتاب ألفه بشر، وإنما تراه ماثلا في كل صفحة امتن بها علينا رب البشر، تدمع منك العين عندما تتعايش مع آيها، وتذوب منك حشاشات الصدر عشقًا للغته، وهيامًا بأساليبه، وتجاوبا حقيقيا مع تراكيبه، وشبه الجملة:(إلى ربه) ما أجمله!، والله بجلاله وجماله وكماله يقول لنا: تعالوا إليَّ؛ فأنا ربكم، في انتظاركم:(فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلًا)، أي: اتخذ إلى ربه حبيبه، مولاه، إلهه، معبوده، الذي خلق الدنيا كلها لتكون خادمة له، فما أجمله من شبه جملة!، وما أجله من معنى!، وما أعزه من كلام وحديث قرآني كريم!، ثم يأتي الختام الجليل للسورة الكريمة:(إنا أنذرناكم عذابا قريبا يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابًا)، هي جملة مؤكدة بـ(إنّ) التي تفيد التوكيد، وتملأ القلب يقينًا، وتتعمق في الحنايا، وتمتلئ بها الزوايا، والحشايا، ومعها اسمها (نا) الذي هو نون العظمة كلها، وجملة (أنذرناكم) هي جملة الخبر المبدوءة بالفعل الماضي الذي يفيد الانتهاء من النذارة، والضمير (كم) يشمل جميع البشر، والمفعول الثاني جاء منكرًا موصوفًا بالنكرة:(عذابًا قريبًا)، رغم بعد زمننا عن الآخرة، ذلك لأن الله خالق الزمن، فلا يجري على الخالق ما خلقه من أوصاف، وما يتصف بما يتصف به عباده، فكأن الآخرة ماثلة حاصلة، والعذاب جد قريب، فقد اتصلت الآية بما قبلها اتصال النتيجة بالسبب، ثم يقول الله تعالى:(يوم ينظر المرء ما قدمت يداه) حديثٌ مبكٍ، ووقتٌ مؤلمٌ، يوم أن يتذكر المرء ما صنعته يداه، وخطته أنامله في صحائفه، وجملة:(ينظر المرء) جملة مضافة، ارتبطت بما قبلها برباط قوي، والفعل (ينظر) هنا تعدى بإسقاط الجار، أو بنزع الخافض، أي: يوم ينظر المرء إلى ما قدمته يداه، أو جاء الفعل متضمنًا معنى (رأى) البصرية التي تتعدى إلى مفعول واحد بنفسها، أي: يراه بعينيه، ويبصره بمقلتيه، ويعاينه بنفسه، واتصل اللفظ بعضه ببعضه اتصالًا قويًا، فالفعل يتطلب الفاعل والمفعول به، والتركيب الإضافي:(يداه) شديد الترابط، والسبك، والتماسك، ومفعول (قدمت) محذوف للعلم به، أي: قدمته يداه، و(اليد) هنا مجاز مرسل، علاقته إما السببية لكون اليد سببًا في كل عمل، او علاقته الجزئية أي: مجازًا عن النفس، أي: يوم ينظر المرء ما قدمه، أو ما قدمته نفسه، ثم ختمت بما يوجع النفس، ويحزن الخاطر، ويدفع على نقيضه:(ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابًا)، والفعل (يقول) معطوف بواو العطف التي تفيد عطف الجمل، و(الكافر) فاعل القول، النادم، الخاسر، فهو يقول مقول القول بكل حسرة،

وخيبة، وخسار:(يا ليتني كنت ترابًا)، ينادي على ما لا ينادى عليه، ينادي على ليت، وبالطبع لا يدخل حرف على حرف، وهنا توجيهان للنحاة؛ الأول: أن (يا) حرف تنبيه ينبه نفسه، وغيره، وليست حرف نداء، فلا شاهد هنا، والتوجيه الثاني دخول حرف النداء على منادى محذوف، يقدر بقوله:(يا أهلي) أو يا خلق، أو يا ناس، أو يا هؤلاء، أو يا قومي، وعشيرتي، وأهلي، وناسي، ثم يأتي مقول القول البادئ بحرف التمني حيث لا ينفع التمني، وأن الدرس قد انتهى، وحان وقت الحسرة، و(الياء) اسم ليت، وخبرها هو جملة:(كنت ترابًا)، حيث الحسرة، واستعمال الفعل الناسخ الماضي المبكي لصاحبه، وتراه يندب، ويتباكى، ويتمنى أن لو كان رغاما يداس، وترابا يبال عليه، أو تعصف به الرياح في مكان سحيق، ارتبط الخبر بالحرف (ليت)، وارتبط خبر الفعل (كان) به، وكله مقول قول ارتد، وعاد إلى الفعل المضارع الذي يفيد الاستمرار، وأن دأب الكافر أن يظل نادبًا حظه العاثر بسبب كفره الظاهر، والغريب أننا ذلك نقرؤه في الدنيا، ولا يزال الكفار كفارًا، ولا يزال العاصون عاصين، ولا يزال الكذابون كذابين؟!، ما هذه العقول، وهاتيك النفوس الغافلة، غير المحبة لنفسها، ولا لذاتها، ولا تحترم يوما آخر، ولا في بالها حساب، ولا عقاب، ولا توقر دينا، ولا تحترم ضوابط الشرع ولا متطلبات المغفرة؟!. إن الآيات الكريمات وضح فيها الترابط وضوحًا بيّنًا، وظهر فيها التماسك ظهورًا كبيرًا، وبان فيها السبك مصحوبًا بالحبك بصورة واضحة، وترابطت الكلمات، والعبارات، والأساليب، والتراكيب ارتباطًا ساميًا، وتداخلت الدلالات تداخلًا ماتعًا، رائعًا، وبدأت شبكة الاتصالات بين الكلمات تبدو متشابكة في أبدع صورة، وأكمل مشهد، وأندر منظر، وأبدع هيئة، وأوسع دلالة، وأعمق مفهوم. فالحمد لله على نعمة القرآن الكريم، اللهم لك الحمد على نعمة القرآن، وكمال البيان، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية

[email protected]