محمود عدلي الشريف:
اقتضت حكمة الله تعالى أن ينتقل الإنسان من مكان إلى مكان، بل ومن زمن إلى زمن ومن هيئة إلى هيئة، فإن يكون في صلب أبيه وسرائر أمه، ثم ينتقل إلى رحم أمه نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم يكون عظامًا، ثم يكسى العظام لحمًا، ثم ينتقل إلى الدنيا، ثم يتنقل الإنسان عبر مسيرة حياته من المهد إلى الطفولة إلى الفتوة إلى الشبابية ثم إلى الشيخوخة، وفي تلك الأثناء ينتقل الإنسان من صورة إلى أخرى ومن شكل إلى آخر ومن هيئة إلى أخرى، بل وقد يتنقل في مناكب الأرض يأكل من رزق الله عزوجل من مكان لآخر وبلدة إلى أخرى، وهذاـ الإيمان والإسلام ـ ليس من شأن الإنسان وحده، بل إن ذلك من شئون سائر المخلوقات، فترى الحيوانات العاشبة تنتقل من مكان لآخر وراء مرعاه، وتجد الحيوانات المفترسة تنتقل من ماكن لآخر خلف فرائسها، حتى الطيور التي تبذل جهد بناء أعشاشها، في أوقات معينة تتركها، وترحل إلى مكان آخر خوفا من البر والحر، حتى الحيتان في بطن البحر، وهذا القانون الطبيعي والطبائعي الذي كتبه الله تعالى على مخلوقاته، نظرًا لاختلاف الأماكن والكائنات، أجراه الله تعالى على أنبياءه ورسله، وذلك منذ أن سكن أبونا آدم ـ عليه السلام ـ الجنة، ونزل منها إلى الأرض، وتلاه أول رسول من أبنائه إلى البشرية ألا وهو سيدنا نوح ـ عليه السلام ـ فقد هاجر بسفينه الأرض كلها حتى أهلك الله تعالى المشركين بالطوفان ثم عاد ـ عليه السلام ـ مرة أخرى إلى الأرض، وقد هاجر سيدنا إبراهيم ـ عليه السلام ـ عدة هجرات فقد هاجر من أرض العراق (بابل) إلى فلسطين (بيت المقدس) ثم إلى مصر، عَن الضَّحَّاك فِي قَوْله:(وَقَالَ إِنِّي مهَاجر إِلَى رَبِّي) قَالَ: هُوَ إِبْرَاهِيم ـ عَلَيْهِ السَّلَام ـ الْقَائِل إِنِّي مهَاجر إِلَى رَبِّي، قَالَ: إِلَى الشَّام كَانَ مهَاجر)، (عَن أَسمَاء بنت أبي بكر ـ رَضِي الله عَنْهُمَا ـ قَالَت:(هَاجر عُثْمَان إِلَى الْحَبَشَة فَقَالَ النَّبِي ـ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّه أول من هَاجر بعد إِبْرَاهِيم وَلُوط) (الدر المنثور في التفسير بالمأثور 6/ 458)، بل وكتب الله تعالى ذلك على زوجته هاجر وولده إسماعيل ـ عليه السلام ـ فقد هاجر بيهم سيدنا إبراهيم إلى أرض الحجاز (مكة المكرمة)، وهكذا جرى الأمر على معظم الأنبياء والرسل لا يتسع المقام لسرد قصصهم الآن، حتى انتهي الأمر إلى خاتمهم محمد ـ صلوات ربي وسلامه عليه ــ فقد كتب الله تعالى عليه الهجرة، وما ذلك إلا لتنبت الدعوة الإسلامية نباتًا حسنًا، فقد استعمل المشركون مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كل الطرق الحديثة في عصرهم، وجميع الأساليب الحسنة والخبيثة لنيل غرضهم، ومن تلك الأساليب:(التدليس على عقول الناس (أَجَعَلَ الْآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) (ص ـ ٥)، التشكيك في مصدر الرسالة (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِنٌ ) ( النحل ـ ١٠٣)، التشويش على دعوته ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُون) (فصلت ـ ٢٦)، التعجيز له بطلب المستحيل في نظرهم (فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (الدخان ـ ٣٦)، المساومة في بعض التنازلات ( لَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ۚ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ ۚوَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ) (هود ـ ١٢)، ( فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ، وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) (القلم 8 ـ 9)، الطعن في الشخصية، التحقير والتصغير منه (صلى الله عليه وسلم) ( وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هٰذَا الْقُرْءَانُ عَلٰى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ) (الزخرف ـ ٣١)، ومن أتباعه (كَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الانعام ـ ٥٣)، نظرية التخوين ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُو ظُلْمًا وَزُورًا) (الفرقان ـ ٤)، إبعاد الذين اتبعوه بالإغراء له (صلى الله عليه وسلم) (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأنفال ـ ٣٠)، ولأتباعه (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) (العنكبوت ـ ١٢)، نظرية التهوين (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ) (الأحقاف ـ ١١)، وزعموا أن الرسول ليس أهلًا للدعوة (وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا) (الفرقان ـ ٧)، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ) (الأنعام ـ ٩١)، الغيرة والغيظ مما تفضل الله به على رسوله ( وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا) (الفرقان ـ ٤١)، وليس ذلك من المشركين فقط بل من أهل الكتاب (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا) ( النساء ـ ٥١)، كذا كان موقف اليهود من الدعوة كان موقف الحسد والبغي والرفض، وتحريض قريش على الرسول (صلّى الله عليه وسلم)، وتفضيل وثنيتهم على ما جاء به من التوحيد، والأكثر من ذلك أنهم كانوا يغرونهم بتوجيه أسئلة للنبي (صلّى الله عليه وسلم)، يصوغونها لهم هم أنفسهم، ظنّا منهم ـ لعنهم الله ـ بأنها ستعجزه وتحرجه) (السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، ص: 71)، ونظرية التهويل:(وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آَمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) (القصص ـ ٥٧)، هذا وغيره الكثير والكثير مما قام به المشركون بكل ما يمكن أن يعرفه بشر أو أن يقوم به لصد الدعوة الإسلامية أن تنتشر، كالشائعات والحرب النفسية والاقتصادية والاجتماعية، كما حاربوه في الداخل والخارج والسر والعلن، واتخذوا كل الوسائل الممكنة بل وغير الممكنة لصد هذه الدعوة المباركة .. وللحديث بقية.

[email protected]*