هناك من يتفاعل مع الحدث العظيم وهو مطلع السنة الهجرية فيراه مناسبة دينية ولذلك قد تتوق نفسه إلى صيام اليوم الأول منه، فما حكم صيام هذا اليوم؟

على أي حال صيامه كصيام بقية الأيام، لا يُمنع أن يصوم الإنسان أول يوم من أيام السنة كما يصوم أي يوم من الأيام التي لا يمنع الصيام فيها، إذ ليس هنالك مانع من صيام هذا اليوم كالمانع من صيام العيدين، أو المانع من صيام أيام التشريق، أو المانع من إفراد يوم الجمعة وحده بالصيام كما جاء ذلك في الحديث، هذا مما لم يكن في صيام أول يوم من أيام الهجرة، ولكن لم ترد سنة أيضًا بتخصيصه بالصيام، هذا مما لم ترد به سنة، فلذلك نحن نود من الناس أن يصوموا وفق مقتضيات السنة، فمما ينبغي للناس أن يصوموا اليوم التاسع والعاشر من المحرم، فإن النبي (صلى الله عليه وسلّم) صام يوم عاشوراء وحضّ عليه صيامه وقال:(لئن بقيت لأصومنَّ التاسع والعاشر إن شاء الله) فتطبيق ما كان حريصّا عليه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ مما ينبغي أن لا يفوت المسلم.

هل الهجرة النبوية الشريفة (على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم) كانت في شهر محرم؟

الهجرة على أي حال صارت بعد بيعة العقبة الأولى، كانت هجرة محدودة، هاجر من هاجر إلى المدينة المنورة من أجل أن يعلّم الأنصار أمر دينهم، هاجر مصعب بن عمير ـ رضي الله تعالى عنه ـ من أجل أن يبصّر الأنصار بأمر دينهم، ثم كانت بيعة العقبة الثانية فهاجر بعد ذلك الناس ارسالًا إلى المدينة المنورة، إذ وجد الناس الحمى الذي يحتمون به والمأوى الذي يأرزون إليه، ووجدوا الجماعة التي يلتفون حولها .

أما النبي (صلى الله عليه وسلّم) فقد كانت هجرته في شهر ربيع الأول، ولكن عندما درس المسلمون قضية التاريخ وأرادوا أن يُنشئوا لأنفسهم تاريخًا كما هو الحال عند الأمم الأخرى إذ الضرورة داعية إلى ذلك لأنهم كانوا قبل هذه الفترة إنما يؤرخون بالأحداث، فأرادوا أن يكون لهم تاريخ زمني محدد، وقد كان ذلك في عهد عمر ـ رضي الله تعالى عنه ـ قلّبوا وجوه الرأي ونظروا بماذا يبدأون هذا التاريخ، فرأوا أن يبدأوه بهجرة الرسول (صلى الله عليه وسلّم)، لأن هذه الهجرة كان بها ميلاد الدولة الإسلامية، فذلك رأوا أن الأمة كأنما ولدت بهذه الهجرة، إذ كان المسلمون قبلها أفرادًا متفرقين، لم يكونوا جماعة يلتف بعضها حول بعض، وبالهجرة صاروا جماعة يلتف بعضها حول بعض، ثم مع ذلك وجدت لهم دولة، وجدت لهم سياسة مستقلة، فرأوا أن الأمة ولدت بهذه الهجرة، فأرّخوا بهذه الهجرة، ثم نظروا بأي شهر يبدأون، فاتفقوا على أن يبدأوا ببعد شهر ذي الحجة نظرًا إلى أن شهر ذي الحجة كان هو الشهر الذي يجتمعون فيه في الحرم الشريف من أجل أداء المناسك، وبعد هذا الشهر ينصرف كل أحد لأهله، فرأوا أن تكون البداية بشهر المحرم أي بعد شهر ذي الحجة الذي تؤدى فيه مناسك الحج .

نرجو من سماحة الشيخ توضيح حديث (لا هجرة بعد الفتح)؟.

نعم، كانت الهجرة إجراءًا ضروريًا حتى أن الصلة التي يُعبّر عنها بالولاية ما بين المهاجرين أنفسهم وما بينهم وبين الأنصار هذه الصلة كانت لا تمنح لمن تلكأ عن الهجرة ولو آمن، فالله تبارك وتعالى يقول:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) )الأنفال ـ 72)، فالله سبحانه وتعالى ما جعل لهم من الولاية نصيبًا إلى أن يهاجروا، ذلك لأن الهجرة صارت أمرًا ضروريًا لا بد منه، هذا لأجل أن تقوى شوكة المسلمين من ناحية، ومن ناحية أخرى لأجل أن يجد المسلم جو الحرية الذي يتنفس فيه بحيث إنه يعبد الله تعالى وهو حر لا يضايقه مُضايق في عبادته لله سبحانه وتعالى .

وبعد أن كان الفتح جاء الناس وأخذوا يدخلون في دين الله أفواجاً، فلم يعد هنالك داعٍ إلى الهجرة، إذ الناس وجدوا المتنفس الذي يتنفسونه، وجدوا الجو الحر الذي يتنفسون فيه في أي بقعة من جزيرة العرب فذلك قال النبي (صلى الله عليه وسلّم):(لا هجرة بعد الفتح).

فالمسلمون غير مطالبين بأن يهاجر أحد منهم إلى مكان آخر، بلاد الإسلام كلها من شرقها إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها هي بلاد واحدة من هذه الناحية، لا ريب أن بعض البلاد أفضل من بعض، فالحرمان الشريفان أفضل من غيرهما، ولا شك أن الأعمال الصالحة يُضاعف أجرها هناك، ولكن هذا لا يعني أن يترك الناس بلادهم وأن يهاجروا إلى الحرمين الشريفين، أو أن يهاجروا إلى أحد الحرمين الشريفين، أو أن يهاجروا عندما كان بيت المقدس في أيديهم إلى بيت المقدس، لا، لأن بلاد الإسلام كلها يجب أن تُعمر، فاستقرار الناس في أماكنهم إنما هو لأجل عمارة هذه الأرض والقيام فيها بأمر الله وإبلاغ دعوة الله وتعليم دين الله بعد تعلمه، هذا مما ينبغي أن يُحرص عليه .

ولكن لو وجد المسلمون مضايقة بسبب سيطرة بعض الناس الذين يضايقونهم في أمر دينهم كالذي حصل إبّان الحروب الصليبية وكالذي حصل في الأندلس عندما أُبيد المسلمون هناك وفرض عليهم أن يتنصروا، أي فُرض على باقيهم إما أن ينتصر أو أن يُقتل ، وكالذي حصل عندما قامت الثورات الشيوعية وأخذت تحارب الدين محاربة لا هوادة فيها فلم يستطع أحد في تلكم الأجواء أن يعبد الله تعالى عبادة كاملة كما يراد منه وكما يريد بنفسه، ففي مثل هذه الأجواء يؤمر الإنسان أن يهاجر حتى لا يضايق وحتى يجد المتنفس، ولكن ليست هذه الهجرة إلى بلد معين، وإنما هي إلى أي بلد يجد فيه الإنسان الجو الملائم، جو الحرية ليتنفس فيه وليقوم فيه بواجبات الدين.