د. جمال عبد العزيز أحمد:
كلما طالعنا العام الهجري المبارك، وهلت أيامه الوضاءة حنت أفئدتنا، واشتاقت قلوبنا إلى حدث الأحداث، ونبع التواريخ، وباكورة العطور والمسوك، وجمال الرياض والحدائق، ورحيق الأزاهير، ورياحين البساتين.
إنه حدث الهجرة الشريفة المباركة التي هي أجل أحداث هذا الدين القويم ، وقد أرّخ بها الفاروق عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ تاريخ أمة الإسلام؛ وذلك لعظمة دروسه، وكمال قيمه، وسمو عظاته، ورقي دلالاته.
كانت هجرة الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، حيث اضطرته قريش لأن يترك المهد الذي فيه نشأ، والمحضن الذي عليه مشى، ودرج، وأخرجت له أربعين شابًا جلدًا، كل شاب يمثل قبيلة من قبائل العرب يجتمعون حيال بيته، يريدون قتله ـ فدته نفسي ونفس أبوّي ـ فإذا اهتبروه بسيوفهم ضاع دمه هدرا بين القبائل، وانتهى الإسلام وراح الدين.
وكان الرسول الكريم هو وصاحبه أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ الذي كان لا يفارقه، بل كان معه كظله أينما ذهب، وحيثما تنقل، كان الرسول الكريم قد أعدَّ العُدَّة من قبل، واجتهد في الأخذ بالأسباب، وبذل كل ما في وسعه، وخرج يوم هجرته الشريفة في وقت لم يكن يعهد فيه خروجه، وهو وقت الهجير، واعتياد القيولة، ومكة تغلي حرارتها لحظتئذ.
عهد الرسول لبطل أبطال الإسلام سيدنا علي بن أبي طالب ـ كرَّم الله وجهه ـ بالنوم في مكانه، وأن يتسجى ببردته الشريفة، إيغالًا في الإيهام، وزيادة في التعمية على المشركين، وليقوم بمهمة من أخطر مهام الإسلام، لكون أربعين سيفًا مستعدة لأن تهتبله، وتنهشه، فما تبقي فيه قطرة دم واحدة، فقبل ـ رضي الله عنه ـ تلك التضحية الغالية بكل رباطة جأش، وصدق نية، وكمال طوية، فداء لحبيبه، ورسوله، ونبيه، وشفيعه الذي تربى بين يديه، وشرب عنه أسمى معاني التضحية، وأكمل ألوان الشجاعة، وأرقى طرق الفصاحة، وأعلى سبل النبل، كيف لا يفديه، وهو الرسول المصطفى، والنبي المجتبى، والشفيع المرتضى، والذي بكل شيء يفتدى؟!.
نام سيدنا علي ـ كرَّم الله وجهه ـ وقلبه مطمئن بربه، متيقن على مولاه، يبتغي الشهادة في سبيل الله، ودفاعًا عن سيد الخلق، وحبيب الحق، وكان كذلك من مهام بقائه في مكة أن يرد الأمانات إلى أهلها، فليس معنى أن يجتمع المكيون على قتل الرسول الكريم أن يمنعهم أماناتهم، إذ كانوا ـ رغم تكذيبه، وصدَّ الناس عن الإيمان به ـ يدعون ، ويتركون عنده أماناتهم، وما يخافون عليه من كرائم أموالهم، ويلقبونه بالأمين، والمأمون، فيقولون:(جاء الأمين)، و(راح المأمون)ـ صلى الله عليه وسلم.
فأول تلك الدروس هو الفدائية، وشرف الجندية، وصدق التضحية، وسمو البذل لهذا الدين القويم، وردِّ الأمانات إلى أهلها، لأن ذلك من أخص خصائص الإسلام، وأسنى مقاصده، وثاني تلك الدروس هو التخطيط السليم، والنظر الدقيق لكل مرحلة من مراحل الهجرة، سواء مرحلة ما قبل الهجرة، أو مرحلة الهجرة نفسها، أو مرحلة ما بعد الهجرة، فالرسول قبل الهجرة، كان قد أعد راحلتين:(وسيلة السفر)، وعهد بهما مع أبي بكر إلى من يقوم على شأنهما، حتى تكونا جاهزتين لحظة الانطلاق، وتتحمل الطريق الوعر، الشاق الذي لم يعهد طريقا لسفر الناس عادة؛ كنوع من التعمية، وحسن التخطيط، وبُعد الرؤية وكمال النظر،كما أن من الدروس الكبيرة المستفادة أن الرسول الكريم قد استغل كذلك طاقات الشباب أيّما استغلال، ووظّفها أفضل، وأسمى توظيف، كل وفق ما يحسنه، ووفق ما يمكنه فعله، فهذا أبو بكر صاحبه في الهجرة، والغار، وطريق السفر مثل كبار السن في خدمة الدين، وهذا ابنه (عبد الله بن أبي بكر)، الشاب الفتي، التقي، الصفي الذي صهر في بواتق التقوى،ورُبيَّ أحسن تربية، وعرف قدسية العمل، وأدرك رسالته، فكان طوال النهار يجمع الأخبار من أفواه مكة، فإذا غسق الليل، ووقب، خرج يتخفى، ويأتي الغار، ليعطي تقريره المفصل عما تلوكه ألسنة مكة، فكان أكبر جهاز استخباراتي دقيق، وأدق ربيئة أسهمت في نجاح الهجرة، وقبيل الفجر، والناس يغطون في نومهم، يعود إلى داره، فيقوم مع الناس، وكأنَّ شيئًا لم يكن، فلم ينهض لتلك المهمة الخطيرة إلا رجل تربى على فهم الإسلام، وتخلل حب الدين في شغاف قلبه، فبذل كل ما في وسعه للقيام بالمهمة الاستطلاعية خير قيام، وتحمل كل ما تحمله ابتغاء وجه الله، ورجاء رحمته ونجاح الهجرة.
وهذه أسماء بنت أبي بكر ـ رضي الله عنها ـ ذات النطاقين، تقوم بالمهمة التي نيطت بها من قبل سيد الخلق، حيث كانت قد كلفت بمهمة التزويد، والمؤونة، وكانت بمثابة كتيبة الإمداد بالزاد: طعامًا وشرابًا، رغم أنها كانت حاملًا، وفي أيام ولادتها الأخيرة،فاختيرت بعناية بالغة لأنها حامل، والحامل في أواخر أيامها تؤمر بالمشي، تيسيرًا لولادتها، وجعلها ولادة خفيفة، لا ألم فيها، كما أنها من أشراف مكة، لا يتبعها أحد، كما هي قوانين المكيين.
فكانت تعد الزاد والماء، وتحمله إذا غطى الليل صفحة مكة، وحلت العتمة شوارعها، وضرب الظلام بأطنابه نواحيها، فلا يكاد أحد يرى أحدًا، ناهيك عن أن يتفحصه، فكانت تسكن مكة عن بكرة أبيها، وعندها تخرج السيدة أسماء ـ رضي الله عنها ـ وهي متقنة وظيفتها، وفاهمة كمال رسالتها لمدة أيام ثلاثة كاملة، ما يشك فيها أحد، ولا يمكن أن يرقى عقل مكي أن يفكر لحظة في سلوكها، أو أن يلاحقها في طريقها، فهي من أشراف مكة، وبنت أشرافها، ونجحت مهمتها، ومضى الركب المبارك بسلام إلى المدينة.
هذه الشريفة بنت الشريف لما لم تجد شيئًا تربط به ما معها من زاد وماء، وما حملته على رأسها وفي يديها شقت نطاقها نصفين، فأحسنت التصرف، واستغلت كل إمكاناتها اليسيرة في نجاح مهمتها، فلما رآها الرسول بهذا الفهم العالي لمهمتها، وإدراكها لجلال رسالتها بشرها، وفرحها بأن اللهتعالى قد أبدلها بنطاقيها هذين نطاقين في الجنة، فسميت من يومها بـ(ذات النطاقين)، ونالت أسمى الألقاب، وأسناها.
* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.

[email protected]