د. جمال عبد العزيز أحمد:
.. فمثّلت دور المرأة المسلمة، كما مثلَّ أخوها دور الشباب المسلم، ومثلَّ أبوها مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) دور كبار السن، فكل منهم له دوره، وكل يتحمل ما عليه من واجبات تجاه دعوته، لا يقوم بها غيره.
وهذه السيدة عائشة أم المؤمنين ـ رضي الله عنها ـ قامت هي الأخرى بدور كبير، عندما جاء أبو قحافة، جدّها، أبو أبي بكر، جاء يسأل عنه، فقالت:مضى، وخرج، فقال: ما ترك شيئًا من المال؟، هل حمل المال كله؟فقال: لا ياجدي، ووضعت يده على شيء أعدته، وكان معتادًا أن يتحسسه، لكونه كان كفيفًا، فحمد الله، وسكت، ولم يقم بما من شأنه أن يحدث ضوضاء، تعرف الناس بأمر الهجرة، وشأن الخروج، ومسألة السفر، فأدت مهمتها على خير.
وهذا عامر بن فهيرة، كانت له مهمة خاصة، وهي محو آثار الأقدام بالسير بالأغنام التي كان يقوم عليها لأبي بكر، حتى تمسح أثر سير أقدام الرسول الكريم، وصاحبه أبي بكر، لأن العرب كانوا يتقنون فن الأثر، ويعرفون من مشى هنا؟، وإلى أين توجه؟، وأي سبيل سلك؟، فهم أساتذة فن اقتفاء الأثر، وكان هذا حرفة لهم، حتى إنهم كانوا يعرفون هل مرَّ من هنا إنسان أم حيوان؟، له عينان يبصر بهما أم إحداهما لا تبصر،والأخرى تبصر؟.
ورغم كل تلك الجهود شاءت إرادة الله أن يقتفوا أثر السير، حتى وصلوا إلى الغار نفسه، ولعل الحكمة أنهم حتى لو وصلوا إليه فلن يستطيعوا أن يؤذوا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ولا أبابكر، لأنه مؤيد من ربه، موصول بمولاه.
حتى وصلوا بالفعل، وقال أبوبكر من شده خوفه على الرسول الكريم ودعوته:يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، ويرد الرسول بكل ثقة وهدوء وحسن صلة بالله: يا أبابكر ما بالك باثنين، الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا، وهو كلام في منتهى الصحة والدقة والحكمة، ذلك لأن اللهتعالىقال:(لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير)، فإذا كان ربهم معهم وهو ـ سبحانه ـ لا يرى، فهم كذلك لا يرون، وهو ما حدث بالفعل، فكفتر قريش رغم وصولهم إلى مدخل الغار توقفوا، ومكثوا لا يدخلون، فقد شاءت الحكمة الإلهية أن توجد أسبابًا توقف تفكيرهم أن يدخلوا، بسبب وجود يمامة كانت قد باضت، ورقدت على بيضها هادئة ساكنة في مقدم، أو نواحي الغار الذي اتخذته مسكنًا لها، وتلك العنكبوت التي نسجت على الغار خيوطها، فقالوا:لو كان أحد قد دخل من هنا لطارت اليمامة، ولتهتك بيت العنكبوت هذا.
فقد كان للطير إسهام، وللعناكب دور، وللغنم دور، وللإنسان ذكرًا كان أم أنثى، شابًا كان أم شيخًا، مؤمنًا كان أم كافرًا، دورٌ في نجاح الهجرة.
كله قد سخرّه الله لنجاح الهجرة الشريفة، وقيام هذا الدين، وانتشاره في ربوع العالمين.
فقد مثّل الكافرين عبد الله بن أريقط الذي كان مشركًا، ولكنه كان خريتًا أي: ماهرًا بدروب الصحراء، فاختاره الرسول الكريم لكونه كان أمينًا، وخبيرًا بدروب الصحراء، ولن يشك أحد فيهلأنه على غير ملة الإسلام، ثم فقد أخذ الفقهاء من ذلك جواز الاستعانة بالمشركين في قضاء مصالح المسلمين، شريطة ألا يتدخلوا في مصير، ومستقبل الإسلام، إنما يعملون بأجر، ثم يتقاضونه بكل أمانة، وينتهي دورهم، ولا علاقة لهم بمصير ومستقبل العمل الذي قاموا به.
فقد اجتمعت إذن كل الأجناس: جنًّا وإنسًا، وطيرًا وحيوانًا، وجمادًا:(الغار والتراب والطريق) في سبيل نجاح الهجرة.
حتى التراب كان له دور، التراب الذي حثاه الرسول الكريم فوق رؤوس المشركين الذين كانوا مجتمعين أمام بيته الشريف بسيوفهم؛ ليقتلوه، فأنامهم الله، وألقى على أجسادهم النعاس، فغطوا في نومهم، فأهال عليهم التراب، وهو خارج من ببته، وقال:شاهت الوجوه، وقرأ قوله تعالى:(وجعلنا من بين أيديهم سدًّا ومن خلفهم سدًّا فأغشيناهم فهم لا يبصرون)(يس ـ ٩).
ليعرفوا، ويتقنوا ـ عند يقظتهم ـ أن الله قادر على كل شيء، وأنه مؤيد رسوله، وناشر دينه، ومنزل كتابه، رغم أنف الكافرين المفسدين، الصادين عن سبيله:(ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون).
إنه درس في دروس: أن يكون للشباب دور مهم في هذا الدين: رجالًا ونساء، مهما كانت طبيعتهم، حتى لو كانت إحدى النساء حاملًا، وفي أيام وضعها الأخيرة، وما بها من ظروف، وتعب شديد.
كما أن كل شخص يجب أن يوضع في مكانه المناسب، ليقوم بمهمته خير قيام، ولا يكسل، اعتمادًا على أن غيره سيقوم بواجبه.
فلو أن كل مسلم وعى مهمته، ووضع بين عينيه وظيفته، وجعل رسالته بين ناظريه لانصلح حال الأمة، وأمست أقوى أمة، تأخذ مكان الصدارة، ويخشى بأسها، وتكون ذات مكان واضح تحت تلك الشمس، ووفق خريطة الكون، تكون أمة قوية، تقود، ولا تقاد، وترود ولا تراد، وتأخذ بأيدي هذه الدنيا الحائرة إلى الدروب العاطرة، وإلى الطرق الصحيحة المؤدية إلى رضا الله، ورسوله، فيسعد العباد، وتنهض البلاد، ويقوم الجميع بالولاء لرب العباد، وينهضون لعبادة الله، وتعبيد الناس لله ـ جلَّ في علاه، وعز في أرضه، وسماه.
.. وسنواصل الحديث حول العبر، والدروس المستقاة من أحداث الهجرة المباركة في لقاء آخر.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.

[email protected]