محمود عدلي الشريف:
وقفنا في المرة الماضية:(عندما ذهب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى أبي بكر في بيته وفي وقت غير معتاد، وهذا من شدة فرحه ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ بهذه البشرى، بالإضافة إلى أنه ـ كما ذكرت آنفًا ـ أراد أن يُعلّم أبا بكر بمنتهى السرية، وكان لابد له أن يحتاط بكل وسائل الحيطة، فقد استعمل الرسول (صلّى الله عليه وسلم) كل الأساليب والوسائل المادية التي يهتدي إليها العقل البشري في مثل هذا العمل، حتى لم يترك وسيلة من هذه الوسائل إلا اعتدّ بها واستعملها، إلى آخر ما عبّأه من الاحتياطات المادية التي قد يفكر بها العقل، ليوضح بذلك أن الإيمان بالله عز وجل لا ينافي استعمال الأسباب المادية التي أراد الله عز وجل بعظيم حكمته أن يجعلها أسبابًا.
وليس قيامه بذلك بسبب خوف في نفسه، أو شكّ في إمكان وقوعه في قبضة المشركين قبل وصوله المدينة، والدليل على ذلك أنه (عليه الصلاة والسلام) بعدما استنفد الأسباب المادية كلها، لقد كان كل ما فعله من تلك الاحتياطات إذن، وظيفة تشريعية قام بها، فلما انتهى من أدائها، عاد قلبه مرتبطًا بالله عز وجل معتمدًا على حمايته وتوفيقه، ليعلم المسلمون أن الاعتماد في كل أمر لا ينبغي أن يكون إلا على الله عز وجل، ولكن لا ينافي ذلك احترام الأسباب التي جعلها الله في هذا الكون أسبابُا) (فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، ص: 138).
قال ابن إسحاق: (عن عائشة:.. حتى إذا كان اليوم الذي أذن فيه لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الهجرة، والخروج من مكة من بين ظهري قومه، أتانا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالهاجرة، في ساعة كان لا يأتي فيها.قالت: فلما رآه أبو بكر، قال: ما جاء رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذه الساعة إلا لأمر حدث. قالت: فلما دخل، تأخر له أبو بكر عن سريره، فجلس رسولالله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء بنت أبي بكر، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: أخرج عني من عندك، فقال: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، وما ذاك؟ فداك أبي وأمي! فقال: إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة. قالت: فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: الصحبة. قالت: فو الله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحدا يبكي من الفرح، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذٍ، ثم قال: يا نبي الله، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا، فاستأجرا عبد الله بن أريقط ـ رجلٍا من بني الدئل بن بكر، وكانت أمه امرأة من بني سهم بن عمرو، وكان مشركًا ـ يدلهما على الطريق، فدفعا إليه راحلتيهما، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهم) (سيرة ابن هشام، ت: السقا 1/ 484).
وهنا تطل الحضارة إطلالتها البهية، وتخرج علينا بهدية غاية في الجمال ألا وهي: استئجار ابن أريقط والذي سلماه راحلتيهما، لتظهر لنا الحضارة حمالها في:أولًا: قبل الموعد ليكون لديه المدة الكافية، ليودع أهله ويجهز أموره، ويجهز الراحلتين أيضا،وثانيًا: يعتني بهما ويعلفهما ويجهزهما للسفر، وهذا يحتاج إلى عناية خاصة لتوفير الطعام والشراب للإبل، فالإبل قادمة على سفر، والأهم أن الطريق غير مألوف إذن فهو شاق ويحتاج إلى قوة الجمال وصبرها وصلابتها، وإذا لم تكن الإبل مزودة وقوية لما استطاعت أن تصبر، وهذا ما يدركه رسول الله وصاحبه وابن أريقط، ولهذا اختارا ابن أريقط لأنه يعلم أنواع الطعام الذي يقوي الإبل ويجعلها تصمد أمام صعوبات وعقبات الطريق، وثالثًا:يدلهما على الطريق، على الرغم من أن الطريق معلوم لجميع أهل مكة، ولكن المعلوم هو الطريق المعلوم المعهود، الذي يمشي فيه جميع الناس، لكنهما أخبراه أنهما يريدان طريقا غير مألوف، وهو يعرفه ولهذا استأجراه، إذن علم ابن أريقط أنهما يريدان طريقًا غير مألوف، وهذا يدل على أنهما يريدان أن يهاجرا خفية، ولاشك أن ابن أريقط كان يعلم المشكلة الكبيرة الواقعة بين صناديد قريش وبين رسول الله، وهو أيضا يتفق معهم في الشرك فقد كان مشركا كما وقع في الرواية، ومع ذلك استئمناه وتعاقدا معه،ورابعًا: المدة التي انتظر فيها رسول الله وصاحبه قبل التحرك، وهذا المدة والتي ليست بالقليلة إلا أن ابن أريقط كان له مواصفات تمنحه تلك الثقة التي من أجلها اختاره رسول الله وصاحبه، كتمانه للسر، وحفظه للعهد، وإيفائه بالوعد، وعدم الوشاية برسول ولا بصاحبه مهما كلفه الأمر، ومهما كانت هناك مغريات يتمناها كل مكي أو غير مكي بصرف النظر عن غناه أو فقره أو معدنه وأصله أو عائلته وقبيلته، فالإغراء كبير بشكل فاحش.
تأملوا معي ـ إخوة الإيمان ـ تلك المغريات التي يحلم بها معظم الناس في ذلك الزمان، إنها مائة ناقة، نعم! مائة ناقة، تخيلوا أن الزمان هو الزمان ونحن الآن، فكم يكن ثمن مائة ناقة اليوم؟ إنه رأس مال وأي مال؟!، إنه ثمن مائة ناقة،أليس هذا قمة الإغراء لرجل كابن أريقط، فهو إن كان قد اتفق مع رسول الله وصاحبه حول صفقة، صفقة قد ينكث فيها عهده، وتطيش أوراقه مقابل رياح الإغراءات العاتية والعاصفة القوية، ولكن رغم ذلك كله لم يعي بالًا بما وضع أمامه من مغريات، بل ولم يهتم رغم أنه يتفق مع أهل الشرك في شركهم.
والله كأني بكم ـ إخواني الكرام ـ توافقونني الرأي أن هذه المواصفات يفتقدها بعض الناس اليوم، فابن أريقط الكافر يحفظ سر رسول الله طيلة المدة حتى يوصلهما بسلامة الله إلى المدينة المنورة، ولا ننسى أن الله تعالى سخرّه ليخدم رسوله وصاحبه، ولكن الأمر حقيقة في منتهى الحضارة والرقي الأخلاقي نحتاج منه المزيد اليوم، إنه الثبات على المبدأ وإنفاذ الاتفاق وحفظ العهد وإنفاذ والوعد وحسن الخلق وصدق الحديث وحسن الجوار وأداء الأمانة .. الخ، وهذا ما كان يمتاز به العربي الأصيل، وما ينبغي أن يكون عليه المسلم اليوم، (ولذلك وَثِقَ رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بدليله الدِّيلي يَوْمَ هاجَرَ، وكان دليلُه كافراً، ووثِقَ بعهدِ سُراقة الذي لَحِقَهُ يومَ هاجر، فدعا عليه حتَّى أعطاه عهدَه ألاَّ أخبر بِهِ)(الولاء والبراء في الإسلام، ص: 364).
وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري وغيره في كتاب (الإجازة ـ باب استئجار المشركين عند الضرورة):(أو إذا لم يوجد أهل الإسلام عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ واستأجر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأبو بكر رجلاً من بني الديل ثم من بني عبد بن عدي هاديًا خريتًا)(الخريت: الماهر بالهداية) قد غمس يمين حلف في آل العاصي بن وائل وهو على دين كفار قريش فأمناه، فدفعا إليه راحلتيهما، وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال، فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليالٍ ثلاث فارتحلا ..) (الحديث)، قال ابن القيم:(اسمه عبد الله بن أريقط الدؤلي وفي استئجاره وهو كافر: دليل على جواز الرجوع إلى الكافر في الطب والأدوية والحساب والعيوب .. ونحوها، ما لم يكن ولاية تتضمن عدالة ولا يلزم من مجرد كونه كافراً أن لا يوثق به في شيء أصلًا، فإنه لا شيء أخطر من الدلالة في الطريق ولا سيما في مثل طريق الهجرة) (العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم 3/ 154).
وهذه في حد ذاتها هي الحضارة التي يطالب العالم اليوم، فقد علمها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) للعالم منذ أكثر من نيفوأربعمائة وألف من هجرته المباركة، فنحن نثبت بهذه الحضارة التي علمت العالم وهذا الدين والذي علم العالم بقيادة الرسول العظيم (صلى الله عليه وسلم)الذي أرسله ربه رحمة للعالمين،وما أن جاءت الليلة المتفق عليها حتى أودع رسول الله(صلى الله عليه وسلم)عليًا بن أبي طالب ربه، وأوكله إليه ـ وهو سبحانه الذي لا تضيع ودائعه، وهو نعم الوكيل ـ فقد جعله ينام في مكانه، وذلك لأن عليًا ـ رضي الله تعالى عنه ـ هو الرجل الوحيد الذي يصلح لهذه المهمة، فهو شجاع قوي صلب مقدام كرار.. وللحديث بقية.

[email protected]*