قراءة في ندوة "فقه رؤية العالم والعيش فيه ـ المذاهب الفقهية والتجارب المعاصرة"

ـ ليس من الصعب البرهنة على أن فكرة العقد الاجتماعي أو غيره، أمر له أصوله الشرعية في الإسلام
ـ العقبة التي نواجهها تتمثل في قصرنا إلى التصور الحقيقي للعقد الاجتماعي الذي يمكن تطبيقه ضمن سياق البيئة الأوروبية
ـ معنى العقد الذي يصيغه الناس هو شئ يمليه منطق العقل، بينما الميثاق تجسيد لقوّة الايمان

قراءة ـ علي بن صالح السليمي:
بمباركة سامية من لدن حضرة صاحب الجــلالة السلطان قـابـوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ أقيمت خلال الفترة من 25 الى 28 جمادى الاولى 1434هـ الموافق 6 الى 9 ابريل 2013م ندوة تطور العلوم الفقهية والتي جاءت بعنوان:"فقه رؤية العالم والعيش فيه ـ المذاهب الفقهية والتجارب المعاصرة" وهي النسخة الثانية عشرة من الندوات التي تنظمها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية في هذا الجانب المهم .. حيث شارك في الندوة علماء ومفكرين وباحثين من داخل السلطنة وخارجها .. وتناولت اوراق عمل وبحوثا هامة.
وضمن تلك البحوث والأوراق المقدمة .. ورقة عمل بعنوان:(مفهوم العهد ومفهوم الأمان ودار الاسلام) للباحث فضيلة الشيخ الدكتور مصطفى إبراهيم تسيريتش ـ المفتي العام السابق للبوسنة والهرسك.

قال الباحث: إنَّ ذهاب البعض إلى نفي الإسلام عن بعض البلاد الإسلاميّة أو كلّها لشبه لديهم ينذر بخطر عظيم وتترتَّب عليه مفاسد لا عد لها تعصف بالعالَم الإسلامي قطعة قطعة وبلدًا بلدًا، وتلقي بها في المجهول وتقحمها في الأهوال، ولا بد للسّادة علماء الدين أن يؤدّوا واجبهم في تجلية الحكم في هذه القضية، ودفع الشُّبَه المثارة لدى البعض عبر الحوار البنّاء.
مضيفاً بقوله: مما تقدم يتأكّد لدينا إن البلاد الإسلاميّة جميعها دار إسلام منذ أن دخلها الإسلام، وبوجود المسلمين المتواصل فيها، وتمكّنهم من إظهار شرائعهم، وترابط بلدانهم.
وقال: نعم، فقد مضى الفقهاء زمناً طويلاً وهم يتداولون ما اصطلح عليه في الفقه الإسلامي "دار حرب ودار إسلام" كصورة من صور العلاقة بين المسلمين وغيرهم إلا أن أحداث العنف من قبل أطراف إسلامية تجاه دولٍ غربية وعربية، ونزعات العنصرية في دول غربية ضد جاليات أقامت بينهم عقوداً من الزمن أحالت علماء ومفكرين إلى مراجعات لبعض الإرث الفقهي القديم في العلاقة الجدلية بين المسلمين وغيرهم.
موضحاً بقوله: ان علماء وفقهاء من دول إسلامية وعربية عدة قد خلصوا إلى استلهام روح فتوى سابقة لشيخ الإسلام ابن تيمية، والانطلاق منها إلى ابتداع مصطلح فقهي بديل، يناسب واقع العصر، في مسألة عرفت فقهياً بـ"تقسيم الديار"، وأكد الفقهاء في ختام مؤتمر أقامه أخيراً (2010) في مدينة ماردين التركية "المركز العالمي للترشيد والتجديد" برئاسة العلامة عبدالله بن بيه، أن تقسيم الدول ما بين "دار سلام أو حرب" لم يعد صالحاً للعهد المعاصر الذي أصبح فيه جميع السكان في "الدولة الوطنية" يتمتعون بكامل حقوقهم في الغالب، واقترحوا إطلاق مصطلح "فضاء سلام" بديلاً عن التقاسيم السابقة أجمعها، أسوة بابن تيمية الذي ابتدع وصفاً جديداً لأهل ماردين قبل قرون خلت، ولم يأسر نفسه بالأقسام المشهورة في زمانه، وكان أهل المدينة في عهد التتار سألوا ابن تيمية عن الوصف الشرعي لمدينتهم، وهل هي "دار كفر أم إسلام؟"، فرد بإجابة مبتكرة في نظر الفقهاء، وأطلق عليها قسماً ثالثاً، وقال: "وأما كونها دار حرب أو سلم، فهي مركبة‏:‏ فيها المعنيان، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام، لكون جندها مسلمين‏.‏ ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه، ويقاتل الخارج عن شريعة الإسلام بما يستحقه" وهو التوصيف الذي استغله كثير من أتباع الفكر التكفيري في تبرير أعمالهم الإرهابية إلا أن المجتمعين الذين خصصوا مؤتمرهم لنقاش فتوى ابن تيمية حول المدينة نفسها قبل 700 عام، أكدوا أن فتوى شيخ الإسلام "لا يمكن بحال من الأحوال أن تكون متمسّكاً ومستنداً لتكفير المسلمين والخروج على حكامهم واستباحة الدماء والأموال وترويع الآمنين، والغدر بمن يعيشون مع المسلمين أو يعيش معهم المسلمون بموجب علاقة مواطنة وأمان، بل هي فتوى تحرّم كل ذلك (...) وقائلها موافق فيها ومتبع لعلماء المسلمين في فتاواهم في هذا الشأن ولم يخرج عنهم،"مقررين أن من استند إلى تلك الفتوى في قتال المسلمين أو غيرهم" أخطأ في التأويل وما أصاب في التنزيل.
ـ دار الإسلام وأوروبا:
وقال الباحث: انه انطلاقا ممّا تقدم نستطيع القول بأنّ أوروبا ليست دار إسلام، ولا دار حرب، بل هي دار الصلح أي دار العقد الاجتماعي.
مبيناً بأن أوروبا ليست دار الإسلام لأن المسلمين فيها ليسوا أغلبية، وعليه فلا يمكن تطبيق الشريعة الإسلامية الكامل فيها، وهي أيضا ليست بدار الحرب، لأنه من الممكن فيها تطبيق بعض جوانب الشريعة الإسلامية. وبناء على هذا فإن أوروبا هي دار العهد، والعقد والأمان، وذلك لإمكانية العيش في الإسلام ضمن إطار العقد الاجتماعي "على أساس المبادئ التي يقبل بموجبها الأفراد الأحرار العاقلون ـ وهم يرغبون بتحقيق مصالحهم الذاتية ـ نقطة الانطلاق المتمثلة بالمساواة، على أنها تحديد للنقاط الأساسية لتضامنهم".
وقال: إنه ليس من الصعب البرهنة على أن فكرة العقد الاجتماعي أو غيره، أمر له أصوله الشرعية في الإسلام. فلدينا الكثير من الأدلة الاعتقادية والتاريخية الإسلامية التي تشير إلى مبدأ العهد والحلف والاتفاق والذي يقف بمواجهة مبدأ الحرب والصدام وإراقة الدماء. إن كلمة الإسلام بحد ذاتها تحمل في طياتها معاني السلام مع الله ورسوله ومع سيادة القانون، هذا لأن الله سبحانه وتعالى يقول في محكم التنزيل:{والله يدعو إلى دار السلام ..}، ويقول عز وجل أيضا:{وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما}.
موضحاً بقوله: وانطلاقا من روح هذه الآيات القرآنية، أبرم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) صلح الحديبية مع المشركين، ومع اليهود والنصارى في المدينة المنورة ومناطق أخرى من شبه الجزيرة العربية، وكذلك مع حكام البلاد المجاورة مثل الحبشة وفارس وبيزنطة. إن هذه الحقيقة التاريخية عن دار العقد والعهد والاتفاق والتعايش، والتي قدمها المسلمون تعبيرا منهم عن حسن النوايا تجاه الأديان والشعوب الأخرى، قد أحسن تسجيلها وتوثيقها محمد حميد الله في كتابه القيّم: "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة" (دار الإرشاد، بيروت، 1389 هـ/ 1969 م).
وقال: وكما ذكرنا، فإنه ليس من الصعب البرهنة على صحة نظرية العهد والأمان، لأنه يمكننا وبكل ثقة أن نؤكد بأن هذا يعتبر جزءاً جوهرياً في التعاليم الإسلامية الشاملة وفي التاريخ الإسلامي، ولكن العقبة التي نواجهها تتمثل في قصرنا إلى التصور الحقيقي للعقد الاجتماعي الذي يمكن تطبيقه ضمن سياق البيئة الأوروبية، والذي سيضمن المكانة الشريفة للإسلام بصفته أسلوب حياة في أوروبا، وللمسلمين باعتبارهم مواطنين أوروبيين، أولاً: يجب علينا أن ندرك بأن أوروبا دار سلام لا دار حرب، ثانياً: يجب علينا أن نعرف القضايا التي ينبغي إدراجها في إطار العقد الاجتماعي، ثالثاً: يجب علينا أن ننشئ منظمة أو مؤسسة يمكنها أن تقدم الإسلام على أنه دين عالمي والمسلمين على أنهم مواطنون أوروبيون صالحون.
مشيرا الى أن معنى العقد الذي يصيغه الناس هو شئ يمليه منطق العقل، بينما الميثاق تجسيد لقوّة الايمان، ولذا نُعَرِّفُ المسلمَ بأنه إنسان عاهد الله عليه باعتبار ذلك عملا تجسده قوّة الإيمان (الميثاق)، بينما نعرّف المواطن أنه رجل عليه واجب تجاه الدولة باعتبار ذلك عملا يمليه عليه عقله (العقد)، ومن خلال الميثاق يتجه قلب الإنسان لربّه ويحصل له الإطمئنان الداخلي ومن خلال العقد يعطي الدولة عقله ويتلقى بذلك الأمن الاجتماعي، شأنه في ذلك شأن أي واحد من سكان أية مدينة، فالمواطن له حقوق وامتيازات الرجل الحر، وهو عضو في الدولة سواء كان مواطنا بالميلاد أو بالتجنس، وهو مدين للدولة بالإخلاص وله عليها حق توفير الحماية له.
وقال: إن أوروبا بوصفها دار العقد تفتح الطريق أمام الحوار الصادق ليس مع النصارى فحسب بل مع المجتمع الأوروبي (أو الغربي) بأسره، ولتأكيد ذلك الأمر يقول جل وعلا:{أُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [النحل ـ 125].
مبيناً بأن هذا المبدأ القرآني يقرر بأن الحوار بين الأديان والثقافات يجب أن يكون مؤطرا وعادلاً وعلمياً وهادفاً وشاملاً وذا معنى، ومن أجل تحقيق هذا المستوى في التخاطب مع المجتمع الأوروبي يتحتم علينا أن نفهم فلسفة أوروبا وثقافتها وسياسيتها المعاصرة. ففلسفة أوروبا ترتكز على منطق العقل والعلوم التجريبيّة، وثقافتها مأخوذة من التجربة النصرانية في معظمها، وسياستها تستند إلى فكر البقاء للأصلح. هذا الفهم المطلوب لاوروبا ليس القبول لكل ما هو اوروبي، بل العكس هو الصحيح، إذ يؤدي عدم الفهم إلى قبول الأشياء التي يجب رفضها. وفضلاً عن ذلك فإن الجهل بحقيقة مختلف أبعاد المجتمع الأوروبي يجعلنا غير قادرين على التمييز بين الصالح والطالح والمفيد والضار من المنتجات الأوروبية المتاحة لنا للإستهلاك. في الحقيقة فأن درجة معرفة أوروبا (والغرب عموما) بالمسلمين أكبر من مستوى إرادتها في قبولهم، بينما يقل مستوى معرفة المسلمين بأوروبا عن مستوى استعدادهم لقبولهم لها، وهذا هو التباين الأساسي بين النظرة الأوروبية للإسلام والنظرة الإسلامية لأوروبا أوبعبارة أخرى، عدم توفر الإرادة الأوروبية لقبول المسلمين على حالهم الراهنة، بجانب عدم توفر المعرفة للمسلمين عن أوروبا كما هي عليه الآن. يلاحظ المرء أن أوروبا مستعدة للتسامح مع الإسلام في دارها لكنها غير مستعدة حتى الآن لقبول المسلمين في حياتها السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن ناحية أخرى يقبل المسلمون أوروبا على شكلها الحالي لكنهم لا يقومون بما هو كاف لزيادة مستوى معرفتهم بالبيئة السياسية والاجتماعية والثقافية في أوروبا التي يمكن أن تغير وضعهم في المجتمع الأوروبي.
وقال الباحث: وإذا قبلنا مفهوم دار العقد لأوروبا كما يراها المسلم الحقيقي بوصفه مواطناً أوروبياً صالحاً، فإنه يستوجب علينا أن نعرف ما هي القضايا التي تهمنا لجعل المفهوم عملياً. ينبغي أن نعرف القضايا التي توجد نوعاً من الشد والجذب بين الإنتماء الإسلامي والمواطنة الأوروبية؟ وهل هذه القضايا ذات صفة سياسية أم اقتصادية أم ثقافية أم دينية؟ إنه القول الصحيح أن يقال إن القضايا تتسم بكل الصفات المذكورة أعلاه، فعلى الجانب السياسي يجب أن يعرف المسلمون في أوروبا حقوقهم الإنسانية لا سيما فيما يتعلق بتمثيلهم أمام الآخر، ينبغي أن يصرّ المسلمون على إزالة كل جوانب الكراهية في وسائل الإعلام المتحيزة ضد الإسلام والتي دعمتها بقوة المؤسسة السياسية الأوروبية وأعني بهذا الأمر الشعور المناهض للإسلام والذي نجم عن عدم التسامح السياسي والكراهية العنصرية.
موضحاً بقوله: إن على أوروبا أن يتقبل القيم الإسلامية التي تدعو إلى التسامح بين الأديان وأن تعترف بقيمة العَرَقِ الذي سال من جباه العمال والمفكرين المسلمين في سبيل بناء أوروبا الحرة الغنية، حيث إن أوروبا ليست مدينةً تاريخيا فحسب للمسلمين فيما يتعلق بحريتها وازدهارها، بل إن مساهمة المسلمين المعاصرة في تطوير وتقدم أوروبا هي التي تعطينا الحق في أن نقول إن أوروبا مدينةٌ لنا فعلاً بالكثير جداً، وعلى الجانب الاقتصادي يجدر بنا أن نطالب بتساوي الفرص وذلك لتحقيق قدر معقول من النمو الاقتصادي للجماعة الأوروبية الإسلامية، ومن هنا فمن الطبيعي أن ترتبط القضايا الاقتصادية ارتباطاً عضوياً قوياً بقضية التعليم والتربية التي يجب أن تكون محور اهتمامنا الأول، حيث "تدل كلمة التعليم والتربية على جملة التأثيرات التي تتمكن الطبيعة أو الأشخاص الآخرون من ممارستها سواء على عقولنا أو على إرادتنا وتشمل حتى التأثيرات غير المباشرة على شخصيات وعقول الرجال والتي نجمت عن أشياء لها هدف مختلف تماماً، سواء بسبب القانون أو بنوع الحكومات أو بالفنون الصناعية، وحتى بفعل الظواهر الطبيعية مثل المناخ والتربة والمنطقة والتي ليس للإرادة البشرية سلطان عليها".
يذكرنا تعريف التعليم هذا بأربع حقائق يتحتم علينا معرفتها وهي: أولاً: ما الأشياء التي يجب أن نفعلها حتى نتمكن من التأثير على عقول أطفالنا؟ وثانياً: يجب أن نكون مدركين للأشياء التي يفعلها الآخرون من أجل التأثير على شخصيات وعقول أبنائنا، وثالثاً: يجب أن نكون ملمين بقوانين وأنماط الحكومات الأوروبية التي تسهم بصورة غير مباشرة في تشكيل عقول أطفالنا، ورابعا: ينبغي أن ندرك الظواهر الطبيعية في أوروبا وذلك حتى يتسنى لنا أن نتفهم الاحتياجات الثقافية والاقتصادية للجماعة الإسلامية الأوروبية.
وقال: ولذا، وقبل أن نطلب من الآخرين القيام بالمطلوب منهم تجاهنا، يجب علينا أن نقوم بأنفسنا بالقيام بما هو مطلوب منا في مجال التعليم و التربية. علينا أن نعمل على إعداد برنامج تعليمي وتربوي واضح وشامل نراعي فيه ضرورة ارتكازه على المبادئ الجوهرية لروح ديننا باعتبار ذلك عملاً من إرادتنا بجانب ارتكازه على واجباتنا وحقوقنا الأساسية كمواطنين أوروبيين، وفي إطار التوافق التام بين هذين المطلبين أرى الحاجة لتطوير مفهوم دار العقد والذي ينبغي أن يطبق في أوروبا.
وقال: وفيما يتعلق بالقضايا الدينية، فإنها تعتمد بدرجة كبيرة على القضايا المذكورة أعلاه والمرتبطة بالسياسة والاقتصاد والثقافة، ولأن ديننا هو منهج حياتنا فإن القضايا الدينية لا يمكن عزلها عن حياتنا، فبناء أي مسجد في أوربا يعد قضية دينية لكنه لا يتم حلها دون الإرادة السياسية للحكومات الأوروبية، وكذلك لا تتم المحافظة عليه دون المقدرة الاقتصادية للجماعة الإسلامية كما أن المسجد لا يؤدي وظيفته دون توافر التسهيلات التعليمية و التربويّة.
مؤكدا ًانه ينبغي ألاّ نحصر شؤون المسلمين في القضايا الدينية فقط، بل يجب أن توسع لتشمل القضايا الاجتماعية، كذلك يجب أن يُعامَلَ دينُنا بوصفه شيئا طبيعياً وقانونياً ووفق مبدأ حرية الضمير والاعتقاد، لكن مما يؤسف له أن أوروبا حتى الآن لم تمنح الإسلام وضعه الطبيعي كباقي الأديان، بل على العكس تماماً لا يزال للإسلام وضع الغريب أو وضعٌ خاصٌ يتم التسامح فيه معه، فهو لا يُقْبَلُ كممثل مساوٍ للأديان الأخرى ضمن التراث الروحي الأوروبي العام على الرغم من أن الإسلام يحتل اليوم المرتبة الثانية بعد النصرانية في العديد من البلدان الأوربية.
وقال: هذا ويواجه المسلمون الأوربيون اليوم صعوبات كبيرة في سبيل المحافظة على هويتهم نظرا لعدم توفر الإرادة لدى بعض الحكومات الأوروبية لتنظيم احتياجاتهم الدينية وحقوقهم الاجتماعية حيث يتوقع الناس من المسلمين أن ينسجموا تماماً مع شرائح المجتمع وأحياناً كثيرة للمدى الذي يفقدون معه هويتهم الإسلامية، وبصفة عامة يتكون لديَّ انطباع عام عن الإعلام الغربي مفاده أن المسلم لن يكون مواطناً أوروبياً صالحاً إلا إذا تنكر لأصله الإسلامي، وإذا لم يفعل ذلك فسوف يواجه الاتهام بأي شئ يحدث في العالم الإسلامي وكأن تلك الجريمة اقترفها بنفسه، وبسبب هذا الانطباع نجد أن حالة وأوضاع شؤون المسلمين في أوروبا ليست دينية فحسب لا سيما الجانب المتعلق بأخلاق الشخصية الإسلامية، بل إنه في العديد من الحالات نجد أمورهم سياسية بصفة غالبة، الأمر الذي يجعلهم يعيشون بصورة دائمة تحت هاجس الخوف وعدم الاطمئنان، ولذا لابد أن يبعد الإسلام عن التأثير السياسي حتى يكون ديناً عالميا هدفه الأساسي هو تعليم اتباعه ممارسة السلوك الحسن في المجتمع الدولي وهذا لا يعني بطبيعة الحال وجوب ألا يُلِمَّ المسلمون بسياسة ذلك المجتمع الدولي، بل العكس من ذلك ينبغي أن يتسلح المسلمون بمعرفة السياسة الدولية حتى يتمكنوا من إنقاذ دينهم من التسييس السيئ، واستناداً لما ذكرناه آنفا نكون قد وضعنا أصابعنا على أهم قضية للإسلام في أوروبا وهي تحديداً قضية التمثيل والمؤسسات، إذ ينبغي أن يكون معلوماً في بادئ الأمر أن هناك حوالي ثلاثين مليون مسلم يعيشون اليوم في أوروبا يمثلون ثلاث مجموعات هي تحديداً: مجموعة المسلمين الأصليين، ومجموعة المهاجرين، ومجموعة المولودين والمعتنقين المسلمين الجدد في أوروبا، فنعني بالمجموعة الأولى المسلمين الذين لهم خلفية تاريخية طويلة في أوروبا مثل مسلمي البوسنة وألبانيا وكوسوفا ومقدونيا وبلغاريا، ونعني بمجموعة المهاجرين المسلمين الذين هاجروا إلى أوروبا بوصفهم طلاباً أو عمالاً أو موظفين ثم استقروا بصورة دائمة ويتركز هؤلاء في كل من بريطانيا وألمانيا وفرنسا، اما مجموعة المولودين والمعتنقين المسلمين الجدد في أوروبا فنعني بها جيل الشباب الذين ولدوا في أوروبا من أبوين مهاجرَيْن والذين اعتنقوا الإسلام.
وقال: تشترك هذه المجموعات الثلاث في شئ واحد هو الانتماء إلى الإسلام لكنها تختلف من حيث تجاربها الإنسانية وتوقعاتها في الحياة، فالمجموعة الأصلية تحمل على كاهلها عبئا ثقيلاً من التاريخ وتتوقع أن تحظى بالدعم في نضالها من أجل استمرارها الديني والثقافي في أوروبا، أما مجموعة المهاجرين فإنها تبذل كل الجهود الممكنة من أجل أن تجد لنفسها موطأ قدم في أوروبا وتتوقع أن تتغلب على وضع الغربة الذي تعيشه في أوروبا.
وفي ختام هذه الورقة اوضح الباحث: ان مجموعة المسلمين المولودين في أوروبا والمعتنقين الجدد يعيشون حالة جهد للمحافظة على هويتهم الإسلامية في وجه التحديات البيئية الأوروبية في مجال السياسة والاقتصاد والثقافة .. وهنا السؤال الذي يطرح نفسه: ما الذي يمكن أن يتم القيام به حتى تصبح قيم الإسلام العامة أرضاً مشتركة لكل المسلمين في أوروبا؟ .. انه يتوجب علينا في هذا الوقت بالذات أن ندرس بصورة جدية طريقة جعل كل من وجود الإسلام كدين عالمي والمسلمين كمواطنين دوليين أمراً مؤسسياً أملاً أن يكون واضحاً لكل إنسان أن التمثيل الطوعي للإسلام والمسلمين في أوروبا يعدُّ أمراً مُضَلِّلاً باعتباره شيئاً ضد كرامة المسلم والسلام في أوروبا، الحقيقة لا يكفي أن تعترف أوروبا بوجود الإسلام على أراضيها لأن المسلمين يستحقون أكثر من مجرد الاعتراف، بل يريدون أن يكون الاعتراف بهم قانونياً بحيث يسمح ذلك بإيجاد المناخ السياسي والاقتصادي الذي يُمَكِّنُ المسلمين من أن يمثلوا أنفسهم عبر المؤسسات التي ينبغي أن تحظى بالدعم الحكومي والقبول الشعبي، إذ إن وسائل الإعلام تجرح مشاعرنا من خلال إصرارها على عرض الإسلام في أوروبا بصورة الإرهاب وربطه بالمسلمين.