العـلـم اليـقـيني الـقطـعي

الحمد الله والصلاة والسـلام عـلى رسـول الله، وعـلى آله وصحـبه ومـن والاه، وبـعـد:
فـيـقـول الله تعالى في كـتابه العـزيـز:{إن هـذا القـرآن يهـدي للتي هي أقـوم ويبشـر الـمؤمنين الـذين يـعـمـلـون الصالحات أن لهـم أجـرا كـبيرا، وأن الـذين لا يـؤمـنـون بالآخـرة اعــتـدنا لهـم عـذابا ألـيما} )الإسـراء 9 ـ 10(، ويقـول بعـض العـلماء:( يـكـفـر بالجهـل حـين يـكـفـر بالـترك) ويـدل هـذا عـلى أن العـلـم قـطـعـي.
وبـعـد فخـلاصة الـكـلام هـي: أنه لـيـس هـناك شيء مـن فـرائـض الله يـؤدى عـلى نـية الشـك، ولا ينجـي المـرء قـوله: أنا أودي هـذا العـمـل فإن كان فـرضا فـقـد أديته، وإن لـم يكـن فـرضا فهـو تطـوع، ألا فـلـتعـلـمـوا بأن هـذا العـمـل لا ينجـيه بيـنه وبـين الله تعالى، لأن الله تعالى لا يـعـبـد بالشـك، وإنما يـعـبـد باليـقـين وبالاطـمئـنان.
فالعـلـم اليـقـيني الـقطـعي هـو المـطـلـوب في العـقـائـد وفي العـبـادات وفي المعـامـلات التي صحـت بالنص الصـريح في الكـتاب {الـقـرآن}، وبالنص الصحيح في السـنة النبوية المـتـواتـرة وبإجـماع الأمـة، وأكـثر أحـكام الـشريـعة بعـد ذلك ظـنـية، لأنها وردت بطـريـق ظـني، ولـيـس للـبـشر شئ أكـثر مـن هـذا، ولا سـيما بـعـد انـقـطاع الـوحي بـوفاة النـبي (صلى الله عـلـيه وسـلم)، وإذن: لم يـبـق إلا اجـتهاد الفـقهـاء والـقـضاة والحـكام الـذين ابتـلاهـم الله تعالى فـألـقى عـليهـم مسـؤولية الشـعـوب والقـبائـل قـل عــددها أو كـثـر، فهـم يحـملـون أمـرا عـظيـما وعـليهـم أن يجـهـدوا ويجـتهـدوا ويتحـروا الحـق، فإن أصابـوه بـعـد التحـري والاجـتهاد فـلهـم أجـران ، وإن اجـتهـدوا وأخـطـأوا فـلهـم أجـر واحـد، وهـذا معـنى الاصابة في قـولهـم:(كـل مجـتهـد مصـيـب، والحـق عـنـد الله واحـد، أي مصـيـب في اجـتهاده بحـسب ما عـنـده، وإن أخـطأ الحــق في الـواقـع ويـسنـد هـذا القـول إلى الإمام أبي حـنيـفة) ـ (السرخسي: المبسوط باب كـتاب أدب القاضي جـ "1"، ص 127).
وليـس مـعـنى الإصابة كـون ما حـكـم به هـو الحـق عـنـد الله، وإنما هـو الحـق عـنـد الله باعـتـبار ان الله أمـر بـذلك الحـكـم بـناء عـلى الظـن لا عـلى الـيـقـين.
هـذا بعـض ما يجـب أن يـقال في الظـن، لأنه مسألة مهـمة في الشـريعـة، ما بـين إنـكار الظـن والنعي عـلى مـن عـمـل به، وبـين العـمـل وما اعـتـمـد عـليه وبـين العـمـل به في أكـثر فـروع الشـريعة أو في جـميـع فـروعـها.
ومـن الأدلة عـلى هـذا قـوله تعالى:{يا أيها الـذين آمنـوا اجـتنـبـوا كـثيرا مـن الظـن إن بـعـض الظـن إثـم، ولا تجـسسـوا ولا يـغـتب بعـضـكـم بـعـضا، أيحـب أحـد كـم أن يـأكـل لحـم أخـيه مـيتا فـكـرهـتمـوه، واتقـوا الله إن الله تـواب رحـيـم} (الحجـرات ـ 12)، ولـقـد نهـينا عـن سـوء الظـن، ونهـينا أن نـعاقـب أحـدا بتهـمة باطـلة مـن غــير تـثـبت ومـن غــير أن يـقـوم دلـيـل.
أما أن يـقـول أحـد: لـقـد غـلـب عـلي ظـني أن فـلانا سـرق لـنـقـطـع يـده مـن غــير أن تقـوم الحجـة فهــذا حـرام لا يجـوز، وهـذا هـو الظـن الباطـل الـذي قال الله تعالى فـيه: {إن بـعـض الظـن إثـم} (الحـجـرات ـ 12)، فـبالـتحـري يجـب أن نبي أحـكامـنا، والله تعالى نسأل أن يـوفـقـنا إلى الحـق والصـواب الـذي يحـبه ويـرضاه.
قال الله تعالى:{فأعـرض عـن مـن تـولى عـن ذكرنا ولـم يــرد إلا الـحـياة الـدنيا ذلك مـبـلغـهـم مـن العـلـم، إن ربـك هـو أعـلـم بمـن ضـل عـن سـبـيـله وهـو أعـلم بـمـن اهــدى} (النجـم 29 / 30)، ما أقـصر هـذه الآية في مبـناها وما أعـظـم مـبـناها في مـعـناها، إنها تبـيـن مقـدار قـيمة عـلم البـشـر، في هـذه الـدنيا، وأنـه لـيـس عـلما كله ينـفـع، وإنما فـيه ما يضـر ولا ينـفـع، يـضـر الاشــتـغـال به والإعـراض عـن الـواجـب.
ولـقــد قـدس البشـر العـلم في هـذا العـصـر وعـبــدوه، حـتى صار يسمى عـصر العـلـم وقـد سـخـر الله تعالى أناسا يـبحـثـون ويخـتـرعـون، ويـبـنـون عـلى ما ورثـوه ممـن سـبـقـهـم إلى ذلك وإنما هـم يـزيـدون ويضـيـفـون، وما مـن عـالـم إلا ويـبني مـعـارفـه عـلى مـن تـقـدمه ثـم يـزيـد عـليها، وهـكـذا إلى حـيـث يـريـد الله، ولا نـدري إلى أين سـينـتهي تطـور العـلـم، وإلى أيـن تـصـل المخـتـرعـات التي يتـنافـس فـيـها الـبـشـر تـنافـس لا هـوادة كل فـريـق يـريـد أن يسـبـق غــيره.
ومـن طـبـيعـة العـلـم أنه يـزداد ويـتــقـدم ويــتـطـور عـلى مـرور الأزمـان، ولـذلك قــدسـه أهـل هـذا الــزمان وجـعـلـوه إلـههـم، فـشـغـلهـم عـن الـتـفـكـير في أي شـيء حـتى نسـوا الله تعالى ، ونـسـوا مصـيرهـم المحــتـوم:(الــدار الآخـرة).
فـفـي حـق هـؤلاء قال الله تعالى لـنبيه (صلى الله عـلـيه وسـلم) كلـمـتـين اثـنـتـين:{ فأعـرض عـن مـن تـولى عـن ذكـرنا ولـم يـرد إلا الحـياة الـدنيا } (النجـم ـ 29)، والنكـتة في هـذا الحـصر، إنهـما كـلمـتان تـفـرقـان بـين الـصـواب والخـطأ، وبـين الحـق والباطـل وبـين أصحـاب الجـنـة وأصحـاب الـنـار، كـما قال الله تعالى:{لا يسـتـوي أصحـاب النار وأصحـاب الجـنـة ، أصحـاب الجـنة هـم الـفائـزون} (الحـشـر ـ 20).
قال الله تعالى لـنبـيه محمـد (صلى الله عـلـيه وسـلم): أعـرض عـمـن تـولى وأعـرض عـن ذكـر الله ، واشـتـغـل بالحـياة الـفـانية، ولـم يـرد إلا إياها، وذكـر الله: هـو ما أنـزلـه الله تعالى عـلى رسـوله (صلى الله عـليـه وسـلـم)، بـواسـطة أمـين الـوحـي جـبريـل عـلـيه السـلام إنه هـذا:{الـقـرآن العـظـيـم} الـذي ضمـنه هـذا الـدين وهـذه الـشـريـعـة الغـراء التي تـعـهـد الله بحـفـظـها، وتـبرز النــكــتة عـجـيـبة في قـوله تعالى:{ولـم يـرد إلا الحـياة الـدنـيا}، أي حـصر إرادتـه وتـفـكـيره وعـمله في كل حـركة وسـكـنـة مـنه، في هـذه الحـيا الـدنـيا فـقـط ، ومـاذا يأكـل؟ ، وما ذا يـشـرب؟، وما ذا يـنـكـح؟، وماذا يـلـبـس؟، وماذا يـسكـن؟ وماذا يـر كـب؟.
والإرادة هي القـصـد، تـقـول: ما ذا أردت مـن عـمـلك، يـعـني: ماذا قـصـدت؟ ، وما ذا أردت مـن ســفـرك؟، يـعـني: ما ذا قـصدت مـن هـذا الـسـفـر الـذي قـمـت به، فـما مـن عـمـل إلا وهـو مـقـصـود لـغـاية، بـغـض النـظـر عـن الغـاية المـقـصـودة ، وهـذا أمـر مـعـقـول، وأفـعـال العـقـلاء مـنـزهـة عـن العـبث كما يـقال، ليـست أفـعالهـم كأفـعال المجانـين الـذين يـقـومـون بـبعـض الأعـمال ، وهـم لا يـدرون لماذا يـقـومـون بها.
فـنـجـد المجـنـون مـثـلا، يحـمـل الـتـرب مـن جـهـة إلى أخـرى، أو يحـمـل الحجـر مـن مـكان إلى آخـر، ولا يعـلـم لماذا يـفـعـل ذلك ، ولـيـس له مـن وراء ذلك العـمـل أي هـدف أو قـصـد أو مصلحـة أو غـاية لأنه لا عـقـل له، ولـكـن مـن كانـت له مسـكـة مـن العـقـل فأعـمـاله تـكـون مقـصـودة لمصلحـة وغـاية.
إن الإنسان في دنـياه عـلى مقـصـديـن: إما أن يـريـد الـدنيا فـقـط، وإما أن يـريـد الآخـرة مـع الـدنـيا كما قال الله تعالى:{ فـمـن الناس مـن يـقـول ربـنا آتـنا في الـدنيا وماله في الآخـرة مـن خـلاق، ومـنهـم مـن يـقـول ربـنا آتـنا في الـدنيا حـسنة وفي الآخـرة حـسنة وقـنا عـذاب النار، أولـئـك لهـم نصـيب مما كـسـبـوا والله سـريـع الحـساب} (الـبـقـرة 200 ــ 202).
ولـيـس المـراد بالقـول الـدعاء فـقـط كما نـفـهـم، وإنما هـم يـدعـون ويعـمـلـون لأن الـدعـاء إذا لـم يـقـرن بالعـمل فـهـو عـمـل باطـل، ســواء أكان للـدنيا أم للآخـرة، فـقـوله تعالى: {فـمـن الناس مـن يـقـول ربـنا آتـنا في الـدنيا وما له في الآخـرة مـن خـلاق} يـعـني: لا يطـلـب إلا الــدنـيا، فإذا سـأل الله سـأله أمـرا مـن أمـور الــدنيا ، وإذا عـمـل شـيـئا فـلأجـل تحقـيـق غـرض مـن أغـراض الـدنـيـا، فـمثـل هـذا لـيس له في الآخـرة مـن خـلاق أي: مـن نصـيب قـل أو كــثر.
قال تعالى:{ومنـهـم مـن يـقـول ربـنا آتـنا في الـدنيا حـسـنة وفي الآخـرة حـسـنة وقـنا عـذاب النار}، يـعـني: يـسأل ربـه أن يـعـطـيه حـسنة الـدنـيا: ولـكـن لـيـست حـسـنة الـدنـيا هي المـلك والسـلطان والغـنى،وإنما هـي الـراحـة والـطـمأنـينة راحـة الـبال وسـكـيـنة الـنـفـس ، يـقـضي بها أيام حـياته الـقـصيرة، ويسـأله أن يـعـطـيه حـسنة الآخـرة، لأنها هـي الأهـم ، ثـم يـزيـد فـيسأله أن يـقـيـه عـذاب النار، عـلى أن حـسنة الآخـرة هي الـنجـاة مـن النار والـفـوز بالجـنـة، وهـذا مـعـقـول ولـكـن لأهـمية المـقـام زاد الله تعالى فـنـص عـلى الـوقايـة مـن النار، لأن الخـوف الحـقـيـقـي هـو الخـوف مـن عـذاب الله، والـنـار ما هي إلا جـنـدي مـن جـنـد الله، قال تعالى:{ ولله جـنـود السماوات والأرض}.
هـذه هي أقـسام الناس: قـسـم يـريـد الـدنـيا فـقـط، وقـسـم يـريــد الـدنيا والآخـرة ، ولا ثالث لهـما ، ولا يمـكـن أن نـزيــد قـسـما آخـر فـنـقـول: وقـسـم يـريـد الآخـرة فـقـط، لأن الله تعالى أمـرنا بالعـمـل للـدنيا كـذلك، عـلى أنه يـمـكـن لـمـن وفـقـه الله أن تكـون أعـماله كلها للآخـرة ، حـتى ولـو كانت في ظاهـرها أعـمالا دنيـوية، فإذا عـمـل الإنسان في تجـارة أو فـلاحـة أو صـناعـة أو وظـيـفة وقـصـد بـعـمـله ذلك وجـه الله والاسـتغـنـاء عـن الناس.
.. للحـديث بـقـية.

ناصر بن محمد الزيدي