ذاكرة لإرث بشري عميق

زوينة الكلبانية: رغم القواسم المشتركة فـي العالم العربي «اللغة، والدين، والتاريخ، والعادات والتقاليد» إلا أن مفردات المكان المبهرة ومروياته الشائقة تمنحه تميزًا وخصوصية يستثمرها الكاتب الباحث عن المغامرة الفكرية والوجدانية.

شيماء الوطني:لا تخلو أي حضارة من وجود أساطير وحكايات تحقق لها نوعًا من التميز الثقافـي وترفد نتاجاتها الأدبية، وعادةً ما تكون هذه الكنوز مستقاة من قصص حدثت بالفعل فـي القدم وتم تناقلها ومن ثم حُرفت وأضيف لها ما أضيف من غرائبية جعلتها تأخذ ملامح الأسطورة وتجنح إلى الخيال.

سمير العريمي :الأمة العربية تمتلك رصيدًا زاخرًا من الفنون الشعبية والحكايات التي ظلت تنتقل من جيل إلى جيل شفاهة أو كتابة ترمز لصراع الخير والشر وتنزع إلى تحقيق الأماني والتطلعات فـي العدل والمساواة الاجتماعية.

نصر سامي:العربي لا يهتم غالبا بتراثه إلا ما ندر، ويبدو ذلك غريبًا جدًّا، فـي حين أن الكاتب الغربي يهتم بتنزيل تراثاته فـي سياق الراهن. وكثيرا ما تحفل الروايات والمسرح والسينما والرسم باستحضار ذلك الماضي، وإعادة استخدامه وفق متطلبات الحاضر.

نعيم فتح مبروك : التراث الشعبي لصيق بالمجتمعات الإنسانية القديمة، لكنه فـي الحاضر بدأ يتلاشى ويندثر، لظهور وسائل الإعلام الحديثة، وقد حاول الكثير من الكُتاب العرب تمثيل هذهِ الكنوز فـي إنتاجهم الإبداعي الأدبي والفني.


■ ■ مسقط ـ العمانية:
تمتلك منطقتنا العربية كنوزًا من الفنون والحكايات الشعبية التي تشكلت عبر تعاقب الأجيال، وأسست بعد ذلك مزيجًا من الثقافات الإنسانية المعرفية، فذهبت لتكون أكثر حضورًا في أدبيات السرد على وجه الخصوص، نتج عن ذلك سياقات بصرية وشعبية في أحيانٍ كثيرة أيضًا، وشكل ذلك ذاكرة لإرث إنساني عميق، ترى كيف استطاع الكاتب العربي تمثّل هذه الكنوز في نتاجه الإبداعي الأدبي والفني؟ كيف يشكّل المخيال الشعبي قوة رافعة للنص الحديث؟ وما هي الآليات المثلى لاستثماره؟ هل جرى توظيف المخيال الشعبي لخدمة قضايا الواقع العربي المعاصرة؟ .. أسئلة كثيرة تتحد لتخرج بإيجابيات نوعية في هذا الشأن. ■ ■

في البداية وحول ما تمتلكه منطقتنا العربية من تلك الكنوز الفنية والحكايات الشعبية التي تشكلت عبر تعاقب الأجيال، وما إذا استطاع الكاتب العربي تمثّل هذه الكنوز في نتاجه الإبداعي: الأدبي، والفني تقول الروائية الدكتورة زوينة الكلبانية: إن غزارة الموروث والحكايات الشعبية المختزلة في العقل اللاواعي للمبدع لها أبعادها الروحية والإنسانية المتشابكة والمتداخلة التي تمنحها الديمومة في الوجدان بعجائبيتها ولا منطقيتها، وقدرتها على التأثير في عمق الظواهر الاجتماعية والتاريخية والدينية بما تقدمه من أحداث ومرويات خارقة يتماهى فيها القدسي بالمدنس والمحسوس بالمجرد، عدا عن مزج الخرافة بالأسطورة والحلم بالواقع، والنتاج الأدبي العربي بامتداد رقعته واتساع تجاربه الإبداعية يتلمس الجوانب الإنسانية والمفاهيم المتوارثة لدى الأجيال، فهي الجذور الأساسية لتكوين الكاتب فكريًا ووجدانيًا وصناعة هوية لتجربته الإبداعية.

وتضيف: إنه رغم القواسم المشتركة في العالم العربي (اللغة، والدين، والتاريخ، والعادات والتقاليد) إلا أن مفردات المكان المبهرة ومروياته الشائقة تمنحه تميزًا وخصوصية يستثمرها الكاتب الباحث عن المغامرة الفكرية والوجدانية .. هي جزء من الهوية ولون من ألوان الأصالة والإبداع .. وغالبية السرد العماني متأثر في بنيته وأحداثه وخيالاته بالمخزون في الذاكرة الشعبية الموشومة بقصص الجنيات والسحر والمغايبة وأساطير البحر والصحراء وأهوالهما .. ولا تزال المخيلة الشعبية العمانية زاخرة بالمرويات والرموز الأسطورية التي تحتاج إلى استعادة وتأمّل ومراجعة، كما يوجد العديد من المنافذ القابلة للسرد مسكوت عنها.

وعن كيفية تشكيل المخيال الشعبي قوة رافعة للنص الحديث، والآليات المثلى لاستثماره، تضيف الكلبانية بقولها: تأثيث النص الحديث بالمخيال الشعبي هو إثراء لمعمار النص سواء أكان شعرًا أم سردًا، يكسبه تفرّدًا وعمقًا وشموليّة، كما يعكس ثقافة الكاتب في الإحاطة بالموروث وما يحمله من أبعاد معرفية وقيمية وإنسانية، إن أجمل ما كتب في الشعر والنثر ما هو مهجن بالموروث ومطعم بالأسطورة إنني أجده أشبه ما يكون بالملاحم ذا أبعاد درامية تشعل في النفوس جذوة الماضي، فالإنسان مفطور على الارتباط بالماضي ويحنُّ إليه خاصة في هذا العصر الذي يتسم بغربة الروح والبحث عن الذات والهوية.. موضوع العودة إلى التراث وبث روح المعاصرة فيه أصبح مطلبًا مُلِحًّا شرط أن يتم صهر هذا الموروث الشعبي وتذويبه في النص بما يتوافق مع الفكرة والمضمون أي تكون له دلالاته ومقاصده حتى لا يبدو مجتزئًا ومقحمًا بشكل سطحي وعبثي لا يخدم العمل الأدبي، كما يستلزم الوعي وإعادة القراءة وتقديمه للمتلقي بقالب جديد لما فيه من الخوارق والتهويل والتضليل على المستوى التاريخي والاجتماعي والديني ولا ضير منتفنيد المسلمات المغلوطة وخلخلة الأوهام وتحطيم التابوهات. وفيما يتعلق بما إذا وظف المخيال الشعبي لخدمة قضايا الواقع العربي المعاصرة تؤكد الكلبانية بأن الأدب الحديث سطّر الواقع واستحضر البطولات للانتصار على الخيبات، هناك العديد من الأدباء المسكونين بالتراث استلهموه فكرًا ومنهجًا وثقافة، المخيال الشعبي كان سلاحًا في يد أغلبية شعراء المقاومة ضد الاستعمار دافعوا به عن هويتهم وأرضهم السليبة. وتضيف بقولها: استحضر الأدباء في الجزائر والمغرب التراث ورموزه وطقوسه وبطولاته في التنديد بالمستعمر، وتغلغل أدب نجيب محفوظ في خوارق الحارات المصرية فأخرج شخصيات أسطورية، كما كشف لنا إبراهيم الكوني عن عجائبية الصحراء ورمزيتها، المخيال الشعبي هو ذاكرة وتاريخ فيه من المرونة والثراء ما يُثري أي تجربة إبداعية على امتداد الزمان.. وكل المحاولات للتعالي على الموروثات ما هي إلا محاولات هشة ومتعثرة.. وفي السياق ذاته وحول ما تمتلكه منطقتنا العربية من كنوز فنية وحكايات شعبية تشكلت عبر تعاقب الأجيال، وما إذا استطاع الكاتب العربي تمثّل هذه الكنوز في نتاجه الإبداعي: الأدبي، والفني تقول الكاتبة والأديبة البحرينية شيماء الوطني التي لها مجموعة من الأعمال السردية بما في ذلك رواية (المطمورة)، ومجموعاتها القصصية: (ظل)،و(معراج على أجنحة السرد)، تقول الوطني هنا: مما لاشك فيه أن كل حضارة لا تخلو من وجود أساطير وحكايات وحتى خرافات، تحقق لها نوعًا من التميز الثقافي وترفد نتاجاتها الأدبية، وعادةً ما تكون هذه الكنوز مستقاة من قصص حدثت بالفعل في القدم وتم تناقلها ومن ثم حُرفت وأضيف لها ما أضيف من غرائبية جعلتها تأخذ ملامح الأسطورة وتجنح إلى الخيال، وفي النتاجات العربية الموجودة نجد أن قلّة من الكتاب العرب استعانوا بالموروثات الشعبية واستعانوا بها في مؤلفاتهم، ولعل ذلك يعود إلى أن الاستعانة بمثل هذه الموروثات يحتاج إلى نوع من الحذر والتروي. وأيضا يستلزم من الكاتب جهدًا مضاعفًا في البحث والتقصي. وعن كيفية تشكيل المخيال الشعبي قوة رافعة للنص الحديث، والآليات المثلى لاستثماره، تشير (الوطني)، إلى أنه من المهم قبل الشروع في إدخال المخيال الشعبي ضمن العمل الأدبي تحديد وظيفته وأثره في النص حتى لا يكون مقحمًا، أو يأتي بردود فعل عكسية لا يتقبلها النص أو القارئ على وجه الخصوص، في كثير من الأحيان يكون المخيال الشعبي نقطة قوة للنص الأدبي إذا ما وُظف ضمن سياق النص وكانت له إسقاطاته الحقيقية الواقعية على الواقع المعاش، على أن يتحرى الكاتب الدقة والأمانة في نقل المخيال الشعبي دون أن يحرفه أو يغير من مواصفاته. وفي حقيقة ما إذا وظف المخيال الشعبي لخدمة قضايا الواقع العربي المعاصرة توضح الكاتبة شيماء الوطني ذلك في قولها: بحسب قراءاتي المتواضعة أجد أن الأعمال العربية سواءً العراقية أو المصرية أو دول المغرب العربي أكثر توظيفًا للمخيال الشعبي عنا في منطقة الخليج، ويحضرني هنا رواية (كتاب التجليات) للكاتب المصري جمال الغيطاني، حيث ارتكزت معظم أحداثها حول أساطير وحكايات غرائبية من التراث القديم. أما في الأدب الخليجي فأجد أن الأعمال الأدبية العُمانية كانت أكثر الأعمال استعانةً بالمخيال الشعبي وقد وظفته توظيفًا جيدًا يمكن اسقاطه على الواقع المعاصر، ولكن بشكل محدود، وأرجع السبب في ذلك إلى غنى التراث العُماني بالكثير من القصص الشعبية المحكية. وتؤكد أيضًا: لدينا في البحرين تم جمع قصص الخيال الشعبي في مجلدات، ولكنها مع الأسف لم توظف ـ بحسب علمي ـ في الأعمال الأدبية إلا لمامًا، لا يبتعد الكاتب والقاص العُماني سمير العريمي الذي أصدر عددا من المجموعات القصصية، بما في ذلك (عين القطر)، و(خشب الورد) وسفر حتى مطلع الشمس كثيرًا عمّا ذهب إليه الحديث أعلاه. ففيما يتعلق بما تمتلكه منطقتنا العربية من كنوز فنية وحكايات شعبية تشكلت عبر تعاقب الأجيال، وكيف استطاع الكاتب العربي تمثّل هذه الكنوز في نتاجه الإبداعي الأدبي، والفني يقول العريمي: الفنون والحكايات الشعبية ذاكرة الأمم والشعوب وإرثها الخالد المتوارث بين الأجيال، والأمة العربية تمتلك رصيدًا زاخرًا من هذه الفنون الشعبية والحكايات التي ظلت تنتقل من جيل إلى جيل شفاهة أو كتابة ترمز لصراع الخير والشر وتنزع إلى تحقيق الأماني والتطلعات في العدل والمساواة الاجتماعية كسيرة عنترة والأمير ذي الهمة وأبي زيد الهلالي فسيف بن ذي يزن ولا ننسى أبطال ألف ليلة وليلة وشخصياتها الخيالية وحكاياها على ألسنة الحيوان والجان والرموز السحرية التي تزخر بها.

وفي شأن ما يشكّله المخيال الشعبي كقوة رافعة للنص الحديث، والآليات المثلى لاستثماره
ويفيد العريمي بقوله: إنّ الكتاب العرب قدموا أبطالهم الأسطوريين القادمين من رحم الحكايات الشعبية متصفين بالإقدام والشجاعة والجرأة المفرطة في اقتحام المخاطر ومواجهة الصعاب والقوى الشريرة والسحرة والعفاريت لإنقاذ أحبتهم أو بلادهم والتضحية في سبيل الجماعة،‏ في تعبير كلاسيكي موروث عن أصول الفن والقص الشعبي المعبر في جوهره عن مضامين عاطفية ونفسية ووجدانية، وبعد إنساني واجتماعي واضح ومن هنا فإن الكاتب الذكي يستطيع بما يمتلكه من أدوات فنية وبناء أدبي أن يستوعب من الحكايات الشعبية وأبطالها إسقاطات رمزية على الواقع السياسي والاجتماعي المعاصر ليفلت من مشرط الرقيب من جهة ويلبس أبطاله رموزًا أسطورية يتجاوز بها صعوبات الواقع المر الأليم.

وعن توظيف المخيال الشعبي لخدمة قضايا الواقع العربي المعاصرة يفيد العريمي: أقول إن هذا قد تحقق إلى حد ما لكن مجالات التوظيف لا تزال واسعة وزاخرة فالبعد الاجتماعي والأخلاقي والإسقاطات السياسية واضحة جلية في معظم أو جل الحكايات الشعبية التي جرى استلامها في الأدب العربي الحديث والمعاصر متكئة على المخيال الشعبي المتصل بالخوارق والمثاليات والصدف الغريبة البعيدة عن الواقع كالسحر والجان والأحلام. ونلحظ هنا أن الكاتب العربي استلهم كثيرا من الفنون والحكايا الشعبية وأعاد
كتابتها وقدم أبطالها بأثواب وإسقاطات جديدة على واقعنا المعاصر في بعض الأعمال الدرامية حتى هناك ما غالى منهم في أساليب النصب والشطارة كعلي الزئبق ودليلة أو الشاطر ليتجاوز أزمات سياسية واجتماعية يعيشها الإنسان العربي في واقعه المعاصر.

أما الكاتب التونسي نصر سامي، وهو شاعر وروائي ورسام تشكيلي، حاصل جائزة الشّارقة للرّواية فقد اختصر ذلك كله في رؤية مجملها أن العربي لا يهتم غالبا بتراثه إلا ما ندر، ويبدو ذلك غريبًا جدًّا، في حين أن الكاتب الغربي يهتم بتنزيل تراثاته في سياق الراهن. وكثيرا ما تحفل الروايات والمسرح والسينما والرسم باستحضار ذلك الماضي، وإعادة استخدامه وفق متطلبات الحاضر، ولقد مثل المخيال عندهم قوة من قوى التغيير وأداة من أدوات الفعل وجمالية إضافية موظفة بحس فني للتأثير، أما المبدع العربي في جميع المجالات فإن أمامه عملا كبيرا ليتمكن من توظيف ميراثه ومخياله الشعبي في جميع فنونه. وذلك بعد أن يعترف البحث العلمي بهذا التراث ويدرس المخيال في البحث الجامعي العربي. وتتغير النظرة للتراث ليصبح في نظر المبدع العربي مجال إبداع وميدان تنافس.
بينما يشير الكاتب العماني نعيم فتح مبروك وهو مهتم بشأن المخيال الشعبي، إلى ما تمتلكه منطقتنا العربية من كنوز فنية وحكايات شعبية تشكلت عبر تعاقب الأجيال، وكيف استطاع الكاتب العربي تمثّل هذه الكنوز في نتاجه الإبداعي الأدبي، والفني قائلا: التراث الشعبي لصيق بالمجتمعات الإنسانية القديمة منذ بداياتها الأولى، لكن في الحاضر نرى أن معظم تلك الصور التراثية بدأت تتلاشى وتندثر، نظرا لظهور وسائل الإعلام الحديثة، وقد حاول الكثير من الكُتاب العرب تمثيل هذهِ الكنوز الغنية والفنية في إنتاجهم الإبداعي الأدبي والفني، وعلى سبيل القول في عام 2010م قدم للإذاعة العمانية مسلسل (نهر
الذكريات) وهي قصة شعبية متوارثة تحكي عن وجود وباء معدٍ انتشر في إحدى القرى، وتم استعراض الكثير من الفنون الغنائية التي كان السكان في ذلك الوقت يمارسونها، مثل رقصة الدان وغيرها من الفنون المرتبطة بالبيئة البحرية، وفي مسلسلي الإذاعي (الحب الكبير) الذي يتحدث عن قصة الحب الكبيرة المتخيلة حاول إبراز الكثير من الفنون الريفية المغناة في ريف ظفار كدبرات وفن النانا وفن المشعير، مرورًا بالمسرحيات والتي كانت في أصلها حكايات شعبية كمسرحية (القلوب الضريرة) ومسرحية (عشق في الصحراء) كانت في أصلها رواية كتبها الروائي العماني محمد الشحري تحت عنوان:(موشكا) وقمت بتحويلها لعمل مسرحي.‏

وفي قضية ما يشكّله المخيال الشعبي كقوة رافعة للنص الحديث، والآليات المثلى لاستثماره يقول الكاتب نعيم: يأتي ذلك من خلال إدخاله في المناهج المدرسية لردم الفجوة بينها وبين الجيل الحالي وتشجيع الحركة الفنية الإبداعية بمختلف مسمياتها لإبرازها، وعمل مسابقات تهتم بالموروث الشعبي، وتقديم الدعم المادي والمعنوي.
أما عن توظيف المخيال الشعبي لخدمة قضايا الواقع العربي المعاصرة يقول الكاتب نعيم فتح: نعم أود أن أوكد أن ذلك تم توظيفه في بعض الدول العربية في فروع أدبية متعددة، مما شكل نموذجًا أدبيًا فعليًا يحتذى به وهذا ما لمسناه ونحاول اكتشاف ذات المخيال الشعبي بين حين وآخر.