د. جمال عبد العزيز أحمد:
القرآن الكريم في حرفه، وضبطه، وبنيته، وأسلوبه، وتركيبه، ووصله، ووقفه، وسكته، تأتيه البلاغةُ من كل مكان، وتتنزل عليه الفصاحة من كلِّ حدب، وصوب، فمع مجيئه على وفاق القاعدة هو بليغ، ومع وروده مخالفًا ـ في الظاهر ـ وفي بعض توجيهاته الإعرابية لتلك النصوص فهو البليغ البليغ ، فلحكمة ما، وقيمة، وغرض، وهدف، خالف السياقُ القرآنيُّ أصلَ القاعدةِ، وسنرى أن وروده على الصورة لتي نزل عليها موافقًا، أو مخالفًا هو البلاغة عينها، وهو الفصاحة ذاتها، وحتى لا ندع الكلام يجري على عواهنه من غير ما دليل، نسارع بأخذ بعض النماذج النحوية والصرفية، لنرى أن ما نزل به الكتابُ العزيز هو قمة البلاغة، وينبوع الفصاحة، وأساس الحكمة، وعنوان التمام في المعنى والدلالة،والأوفق للسياق، وهنا آخذ نموذجًا من النحو، جاءت اللفظة وتوجيهها النحوي ـ كما يقال ـ على خلاف الأصل، أو تجاوزت القاعدة؛ لنرى جمال مقصدها، وكمال مرماها، وسامي معناها، وجليل مغزاها، يقول الله عزوجل في سورة الكهف:(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) (الكهف ـ 79).
يتحدث السياق هنا عن ملك ظالم، يصول، ويجول، أرضًا، وبحرًا بظلمه، سالبًا من أهله كلَّ ما يمكن الانتفاع به، ظلمًا وتكبرًّا، وكبرياءً، وتَعَنْجُهًا، ولا يقف أمامه أحدٌ، حيث قواته، وحرسه الذين حوله، وهم لا يسمعون أنَّات الفقراء ولا عويل الثكالى، ولا نحيب المساكين، المظلومين، المكلومين أمامهم، وكان هناك عبدٌ صالحٌ من عباد الله، علَّمه الله من علمه اللدنِّيِّ، وآتاه من فضله الربانيِّ، وكان فيزمان سيدنا موسى ـ عليه السلام ـ ورافق سيدُنا موسى هذا العبدَ الصالحَ، ليتعلم منه، ويأخذ عنه، حكى ذلك القرآن الكريم بقوله:(قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا) (الكهف ـ 66)، فاشترط الرجل الصالح على سيدنا موسى ألا يسأله عن شيء أبدًا حتى ينتهي تمامًا من مهمته، ورحلته، وألا يتعجل في كلِّ حال يراها منه، وينتظر، حتى يحدث له منه ذكرًا:(قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا)، ولكنَّ موسى ـ عليه السلام ـ طمْأنه، وأخذ على نفسه هذا الشرط؛ لينفذه، ولا يسأل حتى يوضحَّه له، وبالفعل أخذه الرجل الصالح معه:(قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا، قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) فبدأ السيرُ، ومضوا هو وفتاه مع الرجل الصالح:(فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا)، فلما خرقها تعجب سيدنا موسى، وقال على الفور:(قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا)، فعاجله الرجلُ الصالحُ مذكِّرًا إياه بالشرط الذي اتفقا عليه، فاعتذر سيدُنا موسى لنسيانه، وطلب إليه السماح، والعفو، ومواصلةَ السير:(قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا).
وهنا ـ في نهاية المطاف ـ يفسر الصالح له هذا الموقف الذي سنحلل فيه ما خالف القاعدة النحوية ظاهريًّا، وجاء على خلافها، ولم يوافقها كما ذكر بعض النحاة، حيث رآها لن يصبرَمع كل موقف، وسيتعجل، لكونه لا يدرك ما علمه ربه إياه من العلم اللدني، فرجلٌ عاديٌّ يعلم نبيًّا كريمًا من أنبياء الله، فتوقف، وفارقه، بعد أن بيَّن له أنه أمر إلهيٌّ علمه إياه ربهـ جل جلاله:(قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا، أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا).
كانت السفينةُ لفقراءَ مساكينَ بحَّارة، عملهم في البحر، والتقاط أسباب العيش، وسبب الارتزاق هو مِمَّا يصيدون، فليلُهم ونهارُهم في البحر، حيث العمل، والسعي، فلو أن الملك مَرَّ، ووجد السفينة تعمل لَنَهَبَهَا، وأخذها عَنْوَةً، وربما قتل أصحابها إذا وقفوا أمامه مدافعين عن حقهم، فأحدث فيها خرقًا عطَّلها عن العمل، فتوقفتْ، ومَرَّ الملك فوجدها فاسدة، لا نفع منها، ولا فائدة من حملها؛ حيث إن إصلاحها سيتطلب جهدًا، ووقتًا، ومالًا، وتعبًا، وهو يريد أشياءَ صالحةً، جاهزةً للعمل، ويستفاد منها دون أيِّ غرم، أو مال يُدفَع، وبعد أن رحل الظالم، أصلحها المساكينُ في وقت يسير، وعادت لتعمل، وتؤدي مهمتها على أكمل وجه، وهنا عرفنا أن الملك الظالم ناهبٌ، وآخذ لما ليس له، ويلوي أعناق أصحابه، ويجبرهم على السكوت، وعدم النبسِ بِبِنْتِ شفةٍ، ويكرههم على الرضا بما فعل، على الرغم من حزنهم، وعدم رضائهم، وتذمرهم، لكن لا يستطيعون فعل شيء، وسيقبلون الظلم، ويتجرعونه ألوانًا، وأطيافًا، ويشربونه على كره أنواعًا، وأصنافًا، دون أن يفتحوا أفواههم، أو يتلفظوا بما في دواخلهم، وهذا ما جعل كلمة (ظلمًا) تأتي مصدرًا، مع أنها في بعض توجيهاتها تعرب حالا، والأصل في الحال الاشتقاق، لا الجمود، حتى لو جاءت جامدة، فيوجب النحويون تأويلها إلى المشتق؛ لتتماشى مع طبيعة اللغة، ووفاق القاعدة، فالحال مشتقة، وهذا معلوم لكل متعلمي النحو، وأن قواعده تنص على ذلك، ولكنَّ الحال هنا كأنها غُصِبَتْ حقَّها، وأُكْرِهَتْ على المجيء جامدةً، وارتضتْه على مَضَضٍ، وكُرْهٍ، وحزن، وصمت يكاد يقطِّع أمعاءها، ويفتِّت كبدها، كمدًا.
* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]