حامد مرسي:
يقول الله تعالى:(يا أيُّها الذينَ آمَنوا اتَّقوا اللهَ وكونوا مَعَ الصَّادقين) (التوبة ـ 119)، يقول المفسر: أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا مع أهله وتنجوا من المهالك، ويجعل لكم مخرجًا من أموركم ومخرجًا، والصادقون هم الذين استوت ظواهرهم وبواطنهم، والرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول:(إذا وافقت سريرة العبد المؤمن علانيته باهى الله به الملائكة وقال: يا ملائكتي انظروا هذا عبدي) .. حقًّا من مَنَّ الله له وعقل عنه أن يلازم الصدق في الأقوال والإخلاص في الأعمال والصفاء في الأحوال ، فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضا الغفار والصدق من الكلمات التي تطرق السمع فيرتاح لها القلب، لأنها كلمة جميلة تدل على القوة والثبات وهو مطابقة ما ينطق به اللسان لما هو مستكن في القلب والوجدان، أما إذا قال الإنسان كلامًا بلسانه يخالف ما في ضميره ونفسه فلا يكون صادقًا، بدليل أن المنافقين كانوا يقولون بألسنتهم للرسول (صلى الله عليه وسلم):(نشهدُ إنَّك لرسولُ الله)، وهذا كلام صدق من جهة الواقع إلا أن الله تعالى أخبر وشهد بأنهم كاذبون وليس من جهة النطق باللسان ولكنه من جهة ما تضمره قلوبهم وما تخفيه نفوسهم الخبيثة من خداع وعداوة للرسول (صلى الله عليه وسلم). ولقد مدح الله أنبياءه بالصدق، فقال حكاية عن إبراهيم (عليه السلام):(واذكُر في الكِتابِ إبراهيمَ إنه كان صديّقًا نبيًا)(مريم ـ 41)، ومدح سيدنا إسماعيل فقال:(واذكُر في الكِتابِ إسماعيلَ إنَّه كَانَ صَادقَ الوَعد وكَانَ رَسَولاً نبياً)(مريم ـ 54)، ومدح سيدنا إدريس فقال:(واذكُر في الكِتابِ إدريسَ إنَّه كان صدِّيقاً نبيّاً) (مريم ـ 56)، ومدح رسول الله (صلى الله عليه وسلم) سيدنا أبا بكر فقال تعالى:(والذي جاءَ بالصّدقِ وصَدَّق به أولئكَ همُ المتَّقون)(الزمر ـ 33)، فالذي جاء بالصدق هو سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والذي صدَّق به هو سيدنا أبو بكر، ولذلك قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(أبا بكر كالغيث أينما وقع نفع)، ومدح المؤمنين فقال: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم)(يونس ـ 2)، واشتهر (صلى الله عليه وسلم) بين قومه بالصادق الأمين وشهد له أعداؤه بذلك بدليل أن أبا سفيان وكان مازال كافرًا عندما سأله هرقل ملك الروم أسئلة معينة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) وكان منها: بما يأمركم هذا النبي؟ فقال أبو سفيان: يأمرنا بعبادة الله وبالصلاة والصدق. فقال له: وهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال أبو سفيان: لا. فرد عليه هرقل بقوله: ما كان ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله. والصدق من أربع خصال: إذا فعلها الإنسان فلا يحزن على ما فاته من الدنيا، فعن سيدنا عبد الله بن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال:(أربع إذا كن فيك ما عليك ما فاتك من الدنيا: حفظ أمانة، وصدق حديث، وحسن خلق، وعفه طعمه)، وفي رواية أخرى لسيدنا عبد الله بن عباس قال:(أربع من كن فيه فقد ربح: الصدق والحياء وحسن الخلق والشكر)، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كلامه كله صدق وحتى مزاحه أيضًا، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(إني لأمزح ولا أقول إلا حقًّا)، ومن مزاحه (صلى الله عليه وسلم) أن عجوزًا من الأنصار أتته فقالت: يا رسول الله ادع الله لي أن يدخلني الجنة فقال: أما علمت أن الجنة لا يدخلها العجائز، فصرخت فتبسم رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وقال لها: أما قرأت من القرآن الكريم قوله:(إنا أنشأنهن إنشاء فجعلناهن أبكارًا، عُربًا أترابًا)(الواقعة 35 ـ 36)، والرسول (صلى الله عليه وسلم) كان يحثنا على الصدق ويحذرنا من الكذب وبين عاقبة كل منهما، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البِّر وإن البِّر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديّقًا وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا).
ولكن في هذه الأيام انقلبت المعايير، فالرجل الصدوق في وعده الملتزم في معاملاته يقال عنه إستهزاءاً إنه رجل طيب وعلى نياته، ولرجل الكذوب المراوغ يقال عنه أنه رجل بعيد النظر يدرك حقائق الأمور ولكن الحقيقة أن الكذب عار وأهله مسلوب الشهادة فقد ثبت عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه رد شهادة رجل كذب كذبة واحدة وأن الذي يكذب كان يوصي بعض العلماء بأنه لا يجوز الصلاة خلفه، سئل شريك بن عبد الله فقيل له: يا أبا عبد الله رجل سمعته يكذب متعمدًا أأصلي خلفه؟ قال: لا، هذا وإن دلَّ على شيء إنما يدل على قبح جريمة الكذب، ولكن الفتوى الشرعية أن نصلي وراء كل بارٍّ وفاجر، كما أخبر بذلك (صلى الله عليه وسلم)، وخير شاهد على هذا كان سيدنا عبد الله بن عمر يصلي خلف الحجاج بن يوسف الثقفي، وهذا معروف أنه كان رجلًا ظالمًا،وسيدنا عبد الله بن عمر كان رجلًا تقيًا ورعًا.
ومن فوائد الصدق أن صاحبه لا يصيبه عند الكبر هرمًا ولا تخريفًا، يقول سيدنا مالك بن أنس: (كلما كان الرجل صادقًا لا يكذب إلا متع بعقله ولم يصبه ما يصاب غيره من الهرم والخرف)، والصدق صفة جامعة لكل صفات الخير فإذا اعتاده وجعله وصفًا لازماً له فقد بريء من النفاق والغش والغدر وخلف الوعد، ألم تر أن التاجر إذا صدق في تجارته فإن الناس يقبلون على الشراء منه ويطمئنون إليه .. هذا والله أعلم.
* إمام مسجد بني تميم بعبري